قبل أيام فقط، ودّع اللبنانيون عامًا كاملاً من الفراغ الرئاسيّ، على وقع "موجة تفاؤل" بفرجٍ قادمٍ مع العام الجديد، الذي قيل إنّه سيشهد من أيامه الأولى على "حركة مقترنة ببركة" على خطّ استحقاق الانتخابات الرئاسية، تتداخل فيها الجهود الداخلية والخارجية، بعد قول رئيس مجلس النواب نبيه بري إنّ الملف سيشكّل "شغله الشاغل"، وحديث ممثلي "اللجنة الخماسية" عن حراكٍ مكثّف وزيارات مرتقبة وغير ذلك.

لكن، مع اقتراب شهر كانون الثاني من منتصفه، يبدو واضحًا أنّ شيئًا ممّا سبق لم يحصل، وأنّ ملف رئاسة الجمهورية لا يزال غائبًا، بل ربما مغيَّبًا عن صدارة الاهتمامات، فمجلس النواب لا يزال في "إجازته المفتوحة"، وإن قطعها لمرّة واحدة من أجل ضمان التمديد لقائد الجيش العماد جوزيف عون، من دون أن يمارس دوره الانتخابي المفترض، والحكومة المستقيلة تواصل عقد الاجتماعات، بل تدرس إجراء التعيينات وكأنّ شيئًا لم يكن.

ولعلّ الأمر نفسه يسري على الحراك الخارجي، الذي يبدو هذه الأيام "أسير" تصريحاتٍ وتسريباتٍ لا تقدّم ولا تؤخر، حول توافق دول الخماسية على وجوب انتخاب رئيس للجمهورية، من دون أن يحدَّد موعدٌ ثابتٌ لزيارة أيّ من الموفدين، الفرنسي أو القطري، علمًا أنّ كلّ التقديرات تشير إلى أنّ مثل هذه الزيارة إن تمّت في الوقت الحالي، فلن تفضي على الأرجح إلى نتائج مغايرات لزيارات الموفد الفرنسي جان إيف لودريان السابقة.

كلّ ذلك يجري في وقتٍ يُحكى عن فتح باب "المفاوضات" على مصراعيه، في سياق الصراع اللبناني الإسرائيلي، على وقع "قرع طبول الحرب" الآخذ في التصاعد في الأيام الأخيرة، مع تسجيل زيارة المبعوث الأميركي آموس هوشكتاين إلى بيروت، علمًا أنّ أيّ تفاوض من هذا النوع يتطلّب وجود رئيس وفق ما يؤكد العارفون، فما الغاية من "تغييب" الرئاسة عن جدول الأعمال، وما صحّة الحديث عن أنّها ليست أولوية للداخل قبل الخارج؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ ما بدأ عليه العام 2024 هو مغاير بالمُطلَق لما انتهى عليه العام 2023، فالأولويات تغيّرت إلى حدّ بعيد، والملف الأمني عاد ليتصدّر كل الاهتمام بعد مرحلة من "التطبيع" مع الحرب في الجنوب، إن جاز التعبير، وهو ما تجلّى بشكل خاص مع عملية اغتيال نائب رئيس المكتب السياسي في حركة حماس صالح العاروري، في قلب الضاحية الجنوبية لبيروت، وبعده القائد في حزب الله وسام الطويل، خارج نطاق منطقة الاشتباكات.

قرعت هذه الاغتيالات، معطوفة على تصاعد وتيرة العمليات في جنوب لبنان، جرس الإنذار، بل أعادت سيناريو المواجهة العسكرية إلى الضوء، بالتوازي مع احتمالات التوصل إلى تسوية بالطرق الدبلوماسية، وهو ما عزّزته تصريحات بعض المسؤولين الإسرائيليين الذين صعّدوا تهديداتهم لـ"حزب الله" ولبنان، وصولاً لحدّ الحديث عن نوايا بـ"استنساخ" سيناريو غزة في قلب بيروت، ولو عُدّت مثل هذه التصريحات ضمن "الحرب النفسية" المتواصلة بين الجانبين.

في النتيجة، كان الملفّ الرئاسي مرّة أخرى "ضحية" الوضع الأمني، فأخرِج من التداول، ولم يعد يشكّل "الأولوية"، حتى للجهات الخارجية المهتمّة، حتى إنّه غاب بالمطلق عن "أجندة" زيارات بعض الموفدين الغربيين، الذين حضروا في محاولة لتفادي سيناريو الحرب، فتركّز حديثهم مع المسؤولين الذين التقوهم عن القرار 1701، وترسيم الحدود، وسلاح "حزب الله"، من دون أن يأتوا على ذكر الرئاسة، أو يسألوا عن الرئيس العتيد.

ولا يبدو الوضع الداخلي مختلفًا، فعلى الرغم من بعض التصريحات والمواقف التي سُجّلت هذا الأسبوع، خصوصًا من موضوع "المقايضة" بين الرئاسة والأمن، فإنّ الثابت أنّ الموضوع لا يشكّل "أولوية"، بدليل غياب "الإلحاح" على المطالبة بجلسات انتخابية، علمًا أنّ الموقف "المعبّر" في هذا الإطار، كان ذلك الذي أطلقه الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصر الله حين قال في سياق خطابه الأخير، إن "لا شيء لديه ليقوله حول الرئاسة وغيرها".

يقول العارفون إنّه على الرغم من "الجمود" الذي يحيط بالملف الرئاسي، الذي ما عاد خافيًا على أحد أنّه لا يمثّل "أولوية" لا للداخل ولا للخارج، فإنّ ثمّة بعض المبادرات والوساطات التي لا تزال نشطة، أو ربما محاولات الوساطات إن جاز التعبير، وينطلق بعضها من أنّ المرحلة الحالية تتطلب وجود انتخاب رئيس للجمهورية أكثر من أي وقت مضى، بمعزل عمّا إذا كانت الدفة ستميل نحو التسوية أو الحرب، في معارك الجنوب المتواصلة.

بالنسبة إلى هؤلاء، فإنّ الرهان الأساسي يبقى على الحراك الخارجي، وإن كان بطيئًا للغاية، حيث لا تزال الأنظار مركّزة على حركة الموفد الفرنسي جان إيف لودريان، الذي يتوقع أن يعود إلى بيروت في المدى المنظور، ولو أنّ المأمول من حراك الأخير يبقى محدودًا، بانتظار "نضوج" المسعى القطري الموازي، الذي قد يشكّل "الخرق" برأي كثيرين، علمًا أنّ بعض الأوساط تؤكد أنّ الدوحة مستمرّة بالعمل على الملف من خلف الكواليس.

لكنّ العارفين يشيرون إلى أنّ مثل هذا الحراك حتى ينجح فعليًا، يحتاج إلى حركة موازية في الداخل، وهو ما لا يبدو متوافرًا لغاية تاريخه، فالمواقف لا تزال تراوح مكانها، ولا مبادرات حقيقية أو فعليّة يمكن استنباطها من التصريحات، وآخرها ما قاله رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، ورئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل، والتي توحي بأنّ كل فريق لا يزال على شروطه، ولو أنّ من شأنها فتح الباب على "خيار ثالث" آن أوانه.

وفي حين لا تُرصَد تحرّكات يمكن البناء عليها على المستوى الداخلي، لا يبدو أنّ النشاط الذي يقوم به بعض النواب، الذين يسعون لتشكيل تكتّل نيابي جديد من بوابة الرئاسة، يجمع كتلة الاعتدال مع عدد من النواب التغييريين والمستقلين، يريده القيّمون عليه بمثابة "بيضة قبان" في الملف الرئاسي، يبعث فعليًا على التفاؤل، لأنّ المطلوب أكثر من ذلك بكثير، ومن القوى والتكتلات الأساسية، التي لا تزال رافضة لمبدأ التفاهم والتوافق.

قد تكون مفارقة مثيرة للاستغراب، وربما الدهشة، أنّ بلدًا يقف على حافة الحرب، كما يحاول البعض القول، لا يعتبر انتخاب رئيس للجمهورية، مع ما يشكّله ذلك من "حصانة مطلوبة"، أولوية، ولو أنّ الرئيس بحكم الدستور هو المعنيّ أصلاً بكلّ أشكال المفاوضات، ولا شيء يمكن أن يكتمل من دونه. يقول البعض إنّه "التطبيع" مع الفراغ ومصادرة الصلاحيات، لكن هل يجوز أن يستمرّ ذلك، وإلى متى؟!.