لَيسَ لبنانُ مَسرى الأزَلِ فَحَسبَ. هو العِشقُ الذي صارَ وَطَناً. صارَ وَعياً مُذ إبتَكَرَ الحَرفَ هُدى تَواصُلِ التَساميَ. بِذَلِكَ إرتَقى الى مَصافِ اللهِ، مُشتَرِعاً وَمُفَسِّراً الخَلقَ. سُلطانُهُ أنَّهُ تَكَلَّمَ مِن سُلطانِ كَلِمَةٍ هي كُلُّ الحُبِّ وأكثَرَ. بِذَلِكَ تَعريفُ العِشقِ: مَعرِفَةٌ، لا سُلطانَ يُجاريها، لِحَقيقَةِ اللهِ. وَحدُهُ لبنانُ يَعرِفُها. وَكُلُّ مَعرِفَةِ حَقيقِيَّةٍ للهِ، هي مُشارَكَةٌ في مَعرِفَةِ لبنانَ وَعِشقِهِ. فَما مِن أحَدٍ يَعرِفُ اللهَ قَدرَ لبنانَ، وَمَن شاءَ لبنانُ أن يَكشِفَهُ لَهُ.

في هَذِهِ الوِحدَةِ الكيانِيَّةِ، لبنانُ-العِشقُ، هو جَلاءٌ كيانِيٌّ يَفيضُ بَهاءً داخِليَّاً، في كَلِمَتِهِ التي مِن حُروفٍ، هو إبتَكَرَها لِمَجدِ الخَليقَةِ وَتَمجيدِ الخالِقِ. هَذِهِ التَبادُلِيَّةُ بَينَ المَجدِ والتَمجيدِ لا تَحتَفي بِذاتِها جَمالاً خارجِيَّاً فَحَسبَ لِكَينونَةِ لبنانَ في الكَونِ اللامُتَناهيَ، بَل تَستَفيضُ في جَمالِ حَقيقَةِ اللهِ التي مِنها تَنبَعُ لِتَتَجَذَّرَ. فَكُلُّ عِشقٍ هو تَناغُمُ جَمالٍ، حَتَّى في أعتى الآنِيَّاتِ حينَ الظُلُماتُ تُقصي صَفاء البَهاءِ الخارِجيِّ.

أيُطَهِّرُ لبنانُ-العِشقُ الخَليقَةَ مِن أدناسِها؟ لا غَيرَهُ يُغسِلُها إذ تَلمُسُ جِراحَهُ في أتونِ عِشقِهِ-الَلهَبِ. وَهيَ إذ تَنظُرُ إلَيهِ ‒وَكَم مِن مَرَّةٍ طَعَنَتهُ‒، أدرَكَت عُمقَ الحَقيقَةِ في المَعرِفَةِ. تِلكَ التي إذ غاصَت في سِرِّ المَوتِ، حَوَّلَت غُموضَهُ الى سُطوعِ القِيَامَةِ.

هوَذا لبنانُ-العِشقُ: لانِهائِيَّةٌ تَتَخَطَّى الجَمالاتِ الأرضِيَّةِ الى نِهائِيَّةِ الجَمالِ-الحَقِّ... الذي يُخَلِّصُ الكَونَ.

هوَذا لبنانُ-العِشقُ-المُخَلِّصُ. مَلءُ الكَونِ، وَمَلءُ الخَليقَةِ. قُل: مَلءُ اللهِ. عَبَثاً البَحثُ عَن رَجاءٍ يُعانِقُ الظُلُماتِ لِيُنقِذَها مِن ذاتِها، إلَّاهُ. هوَ، حينَ إبتَكَرَ الحَرفَ، هَديرَ التَخاطُبِ، ما قَدَّمَ ذاتَهُ أجوِبَةً على تَساؤلاتِ الخَليقَةِ وَتَسَلسُلِ أسرارِ الكَونِ. بَل عِشقاً خالِصاً. مِقياسَ المَقاييسِ. جَمالاً يَتَغَلَّبُ على ظَلامِيَّاتِ أشكالِ المَوتِ... بالكَلِمَةِ التي جَسَّدَها بِحُروفِ على إمتِدادِ المَسكونَةِ.

أَأَستَفيضُ تَذكيراً بِفَيضِهِ؟ ألَيسَتِ الآرامِيَّةُ-الُلبنانِيَّةُ، إبنَةُ الحَرفِ الفينيقِيِّ-الُلبنانِيِّ، إجتاحَتِ بِلادَ فارِسَ لِتَغدوَ لُغَةَ إمبراطورِيَّتِها، وَبِها كُتِبَت بَردِياتٌ في مِصرَ، كَما التَلمودُ البابِلِيُّ، وأخَذَ اليَهودُ خَطَّهُمُ مِنها بَينَ القَرنَينِ السادِسِ والسابِعِ قَبلَ الميلادِ؟ ألَيسَ الأرمَنُ والفُرسُ والهُنودُ أخَذوا خَطَّهُمُ البَهلَوِيُّ مِن أُصولِها، وَمِنَ الهِندِ صَدَّرَ الكَهَنَةُ البوذِيُّونَ الخَطَّ السَنسِكرِيتيِّ المُشتَقَّ مِن مَصدَرِها الى قَلبِ الصينِ وَكورَيا؟ ألَيسَ القُرآنُ كُتِبَ بالحَرفِ النُبطِيِّ المُشتَقُّ مِنها؟ ألَيسَ الإغريقُ الَذينَ عَلَّمَهُمُ قُدموسُ الصورِيُّ هَذا الحَرفَ، مَن نَشَروهُ، وَإيَّاهُ، في عَوالِمَ الغَربِ؟.

طَريقُ الحَبيبِ

أن يَكونَ العِشقُ-لبنانُ، أن يَغدوَ إلتِماسَ الخالِقِ لِخَليقَتِهِ، وَلَهَفَ الخَليقَةِ لِخالِقِها، بِذَلِكَ، مَعاً، عَهدٌ سَرمَدِيٌّ لِلعِشقِ: لبنانُ هوَ الحَبيبُ، وَهوَ الطَريقُ... مِن خِصالِ القَلبِ الى إستيعابِ قُدُراتِ العَقلِ. بَل قُل: في القَلبِ الذي هوَ العَقلُ. هَذا تَفَوُّقُ لبنانَ-الحَبيبَ خَطَّهُ طَريقاً واحِداً للهِ وَلِلخَليقَةِ، إذ جَعَلَ القَلبَ والعَقلَ وِحدَةَ قُدرَةٍ، بِها الشَوقُ الى العَظائِمَ يَتَجَلَّى تَحقيقاً.

تَهاويُ الخَليقَةِ بَدأ، لا مِن مَدَنِيَّاتِ الغَربِ الداهِمَةِ الى إستيعابِ الكُلِّ بِكِفايَتِها، بَل مِن بُناةِ أبراجِ بابِلَ التائِقينَ الى تأليهِ مِحوَرِيَّتِها بِعُنصُرِيَّاتِ إفناءِ اللهِ بِفَصلِ القَلبِ عَنِ العَقلِ، وَضَمِّ مَن يُتقِنُ لُغَتَها هَذِهِ الى نُفوذِ سِيادَةٍ مُتَماوِجَةٍ أبَداً بَينَ الحَقارَةِ والغَرابَةِ... وَقَد أسموها قُوَّةً.

أجَل! لا لَيسَ إلَّا لبنانَ ما يَؤولُ الى نَجاةِ الكَونِ مِن صَيرورَةِ المَوتِ. هو الذي، على صورَةِ اللهِ، كَلِمَةٌ بِها كُوِّنَ كُلُّ شَيءٍ. هو العِشقُ-العاشِقُ. بِهِ تَتَأجَّجُ الأعماقُ.

إعشَقهُ!