كَينونَةُ جَسَدِ لبنانَ حَيَّةٌ. وَلِروحِهِ كَينونَةٌ مَعلومَةٌ. بَعضُ الأوطانِ لا روحَ لَها. مَنسوجَةٌ بِشِبهِ جَسَدٍ، لا إرتِباطَ فيها بِذاكِرَةٍ. وَبَعضُها تَكَثَّفَت جَسَداً يَستَجديَ شِبهَ روحٍ لِلتَرفيهِ تَعويضاً عَن فِعلِ الخُلودِ.

كَيفَ لِروحِ لبنانَ، وَهي تَواصُل وَميضِ الزَمانِ، إرتِباطُها بأصالَةِ المَكانِ؟.

في الجُنوحِ الى الفَوقِ، بَدءٌ وَمُبتَدأ. فَلبنانُ مَولودٌ مِن فَوقٍ. هَذِهِ حَقيقَةٌ ثَباتُها مِن صَلابَةٍ لا دَنَسَ فيها، مَهمَا نَهَدَ جامِحٌ الى تَشويهِها. الغُلوُّ أن يُركَنَ إلَيها كَنَعيمٍ، هو إمعانٌ في الهُروبِ مِنَ الرُكونِ الى جَسَدٍ. في هَذا التَطَرُّفِ، سَلبٌ لِلبنانَ مِنَ الوجودِ، وَإرغامٌ على إقصائِهِ مِنَ الجَوهَرِ بِنَسفِ حَقيقَتِهِ. أيُمكِنُ لِلبنانَ، بِواقِعٍ كَهَذا، أن يُمسِكَ النورَ وَقَد أدرَكَهُ وَهو فيهِ، بإعتِزالِ جَسَدِهِ الذي مِن تُرابٍ؟ أتَكونُ غايَةُ كَينونَتِهِ أن يَحتَجِبَ عَنِ الأمانَةِ لِذاتِهِ حاجِباً عَنها مَنازِلَ الإقناعِ؟.

لا!.

لَكِنَّ التَطَرُّفَ المُقابِلَ أدهى، إذ يَختَطِفُ ما في لبنانَ مِن روحٍ لِيَحتَبِسَهُ جَسَداً... بِذَريعَةِ أنَّ حَقيقَةَ الكَينونَةِ ما عَثَرَت يَوماً على روحٍ. أفي تِلكَ الصَرامَةِ الفاصِلَةِ، يُمَّحى النورُ الآتيُ مِن لبنانَ الى عَوالِمَ الوَعي، لإقصائِهِ فَمَحوِهِ؟.

لا!.

لبنانُ المُوَّلِدُ التاريخَ، ثابِتَةٌ ضابِطَةٌ. هو مَبدأُ الزَمانِ وَمَبدأ المَكانِ: روحٌ وَجَسَدٌ. ما لأحَدٍ، مَهما عَلا وَتَجَبَّرَ، قُدرَةَ القَضاءِ على تَوازِيَ كُلٍّ مَنهُما بالآخَرِ. وَما لِتَكليفٍ، مَهما تَجَبَّرَ وإعتَلى، مُكنَةَ إرجاعِ أحدِهِما الى الآخَرِ لإلغائِهِ مَضروباُ مِنَ الآخَرِ.

قُلّ: لبنانُ-الجَسَدُ وَلبنانُ-الروحُ، إنضِباطُ مُقابَلَةٍ، في تَناسُقٍ أزَلِيٍّ.

وِجدانُ الحِكمَةِ

أكِفايَتُهُ لبنانُ، تَناسُقُ تَضامُنٍ بَينَ جَسَدِهِ وَروحِهِ؟ لَيسَ مِن ناكِرٍ لِهَذِهِ التَضامُنِيَّةِ الوجودِيَّةِ، بالرَصدِ. بالإختِبارِ. فَمِن هُنا، مَسيرَتُهُ مِن فَوقٍ الى الأعماقِ، وَمِنَ الوجودِ الى جَوهَرِ الجَوهَرِ.

ذَلِكَ وِجدانُهُ في إندِراجِ مَكانِهِ بِزَمانِهِ، وإندِراجِهُما مَعاً في زَمانِ العالَمِ وَمَكانِهِ. وِجدانٌ مِن حِكمَةٍ، مِن قِمَمِ المُثُلِ الى مَقاماتِ الحُكمِ. بالإرادِيُّ، حَيثُ الإشعاعُ جُرأةٌ تَهِبُ الحَواضِرَ مَدارِكَها، لِتَهيئَةِ مُستَقبَلٍ تُسهِمُ في خَلقِهِ. بَل تَخلُقُهُ.

ألَيسَ حينَ هامَت شَريعَةُ حَمورابيَ، التي إستَنسَخَ عَنها اليَهودُ عَدَالَتَهُمُ، قَضاءَ العَينِ بالعَينِ والسِنِّ بالسِنِّ، في سِياقَةٍ الى المَوتِ كَنَتيجَةِ حُكمٍ، بَعدَما فَصَلَتِ بَينَ السادَةِ والعَبيدِ وبَينَ المُلوكِ وَعامَّةِ الشَعبِ، كانَ الشاعِرُ الُلبنانِيُّ-الفينيقِيُّ مِلياغَرَ يَنظُمُ:

"أنا ما لي رِسالَةً قُدسِيَّةً الآنَ

سِوى وَصلِ الأرواحِ بالأرواحِ

وَالضِفافَ بالضِفافِ

وَالورودَ بالورودِ".

وَكانَ الصَيداويُّ أنتيباتروسُ يُنشِدُ:

"لا أمُلُّ في البَحرِ وَلا البَحرَ يَمُلُّ مِنِّي،

فَضاؤهُ يَجلو الروحَ، وَيَرُدُّني لِفَضاءاتِ مَن عَنِّي غابوا،

أغِبتُ أنا عَنهُمُ؟ أم هُمُ مَن عَنِّي غابوا؟

الحَقَّ الحَقَّ ما غابَ أحَدُنا عَنِ الآخَرِ، فالبَحرُ القاهِرُ الزَوالِ لَمَّا يَزَل يَجمَعُنا،

إسألوا زُرقَتَهُ مَثيلَةَ صَفاءِ زُرقَةِ سَماواتِ أجدادِيَ".

وَكانَ تيفريكاتوسُ، يَهتِفُ:

"أشعَلتُ بِنَفسيَ النارَ الأزَلِيَّةَ

ألكانَ أهلي هُناكَ في أرضِ فينيقيَةَ قَبلي أشعَلوها،

بارِكوا لي عَلامَتي الكُبرى."

وَيَصرُخُ لِلإلَهِ إيلَ:

"أيُّها الشاعِرُ الذي فِيَّ،

إستَسلِم لِلُغزِكَ الدافِئَ،

ألمِن زَهرَةِ النارِ آتٍ دَوماً،

إلى قِمَّةِ جَبَلِ النارِ."

بِهَذا الوِجدانِ لبنانُ-الروحُ تَهيِئَةٌ لِحَرَكَةِ لبنانَ-الجَسَدِ، والعَكسُ صَحيحٌ. في رِباطٍ بَينَ الحَقيقَةِ والخَليقَةِ، مِنَ الذُرَّةِ الى الفُلكِ. مِنَ الوِلادَةِ الى المَمَاتِ... الغادِي وِلادَةً جَديدَةً. مِن هُنَيهَةِ الحُجُبِ الى مَدى المَدارِكَ. مِن النِهايَاتِ الى اللانِهايَةِ. بَل بِينَ لانِهايَتَينِ مُطلَقَتَينِ: دَوامَ روحِهِ وَدَوامَ جَسَدِهِ.