لم تشهد ​اسرائيل​ في التاريخ الحديث مشكلة وجودية على قدر ما تعاني منه اليوم، بفعل الانقسام الكبير الحاصل بعد عملية "طوفان الاقصى" والحرب على غزة. لطالما تمكن الاسرائيليون من التكاتف والتضامن مع قيادتهم السياسية، خصوصاً في المسائل المفصلية التي تحمل الطابع الخطر، والتي تهدّد على المدى البعيد، قدرتهم على الاستمرار. من هنا ربما، راهن رئيس الوزراء الحالي ​بنيامين نتنياهو​ على وضع الاسرائيليين كل الاخطاء والافعال المشبوهة التي قام بها، جانباً، والوقوف خلفه في الحرب الدائرة والسير بما يقوله من دون تفكير او نقاش، الا انّ حسابات الحقل لم تتطابق مع حسابات البيدر.

صفعات كثيرة تلقاها نتنياهو، ولكن أقواها والاكثر دلالة هي تلك التي اوجعته منذ ايام قليلة فقط، والمتمثلة بعدم موافقة الكنيست على طرد النائب العربي عوسر كاسيف من تحت قبّة البرلمان، ولو حصلت، لكانت سابقة في التاريخ. صحيح ان نتيجة التصويت كادت ان تطيح بعوسر وخمسة اصوات فقط كانت تفصل بينه وبين الطرد، ولكن النتيجة اتت مخالفة لرؤية رئيس الوزراء ووزرائه من اليمين المتطرف. 85 نائباً ايّدوا طرد النائب العربي، ولكن اليسار الاسرائيلي لعب الدور الكبير في تأمين التوازن في الكنيست، وهذا ان دلّ على شيء، فعلى انه لم يعد يمكن لرئيس الوزراء الحالي التستّر والاختباء خلف ثوب "معركة الوجود" الاسرائيلي، ولم تعد تنفع سياسة الهروب الى الامام واختلاق حروب ومواجهات لشدّ عصب الشارع والمؤسسات. الكنيست ليس مجلس الحرب ولا مجلس الوزراء، وهو بمثابة استفتاء مصغّر، والقضية كانت اسهل من تلك المتعلقة بقضية الاسرى او مصير الفلسطينيين في ​الضفة الغربية​ و​قطاع غزة​، ولكن محاولة طرد عوسر كاسيف اثبتت ان هناك من يفضّل ارسال رسالة الى نتنياهو مفادها انه لا يملك زمام الامور، وان عليه الاستماع الى اصوات اهالي الاسرى وان يخرج من احضان اليمين المتطرّف كي لا يخسر اكثر، وخصوصاً بعد الاستياء الاميركي من ادائه والحكومة، وتقديم واشنطن مشروعا الى ​مجلس الامن​ يدعو الى وقف موقت لاطلاق النار، فيما ابدت ​الادارة الاميركية​ وعدد من الدول الغربية معارضتها الواضحة لاجتياح ​رفح​، (ما لم يتم تأمين المدنيين وفق ما ذكرته واشنطن) على عكس ما تريده السلطة الاسرائيلية.

من المسلّم به ان عوسر ليس الشخصية المحبوبة في الكنيست، وهو المعروف بتضامنه مع الفلسطينيين من جهة، ومعارضته لسياسة ​الاستيطان​ من جهة ثانية، ولو كانت الظروف مغايرة، لكان هناك شبه اجماع على طرده. ولكن، وجود نتنياهو في السلطة والاداء الذي يقدّمه حالياً، كان لهما اليد الطولى في تضامن اليسار والمعارضة الاسرائيليّة مع هذا النائب الذي لا يزال يحمل جرح الاعتداء عليه من قبل الشرطة منذ سنوات وهو يتظاهر دعماً لوقف سياسة الاستيطان.

الرسالة واضحة ولا لبس فيها: لا يملك نتنياهو حق احتكار القرار الاسرائيلي، فعوسر كان قضية بالغة الاهمية لانه دعم ما يقوم به العالم ضد اسرائيل في محكمة العدل الدوليّة، ما يعني انه يعتبر بالنسبة الى اليمين المتطرف "خائناً"، والحملة التي قامت عليه ارتكزت الى انه انقلب على اسرائيل وعلى الاسرائيليين ولم يعد بالامكان السكوت عن تصرفاته. كل ذلك لم يشفع برئيس الوزراء الحالي واليمين المتطرف، فبقي عوسر في مكانه ووصلت الرسالة واضحة الى رئاسة الحكومة من ان الشرخ يزيد بشكل كبير بين الشارع الاسرائيلي ورئيس الوزراء، ولا مجال حالياً لرأبه الا من خلال استرجاع الاسرى وتحقيق حلّ عمليّ يؤدي الى نهاية الحرب وتأمين سلامة الاسرائيليين في المستقبل. هذه الاهداف لا يستطيع نتنياهو ضمانتها وتأمينها، وهو ما سيغيظ اكثر فأكثر التيارات والاحزاب الاسرائيلية الاخرى، ويعزز فرص المعارضة للتحرك ووضع حد لسيطرة رئيس الوزراء الحالي على القرار الخارجي والداخلي.

سقط نتنياهو في امتحان عوسر كاسيف، فأيّ امتحان آخر سيسقط فيه قبل ان يعي انه لم يعد الشخصية التي كان يرى فيها الاسرائيليون انه منقذهم.