فيما تتخبّط المبادرات الداخلية على خطّ الملف الرئاسيّ، وآخرها مبادرة "الاعتدال" ولو أنّها لا تزال "في عزّ شبابها" وفق توصيف رئيس مجلس النواب نبيه بري، تتّجه الأنظار من جديد إلى الخارج، وسط ترقّب للجولة التي أعلن سفراء "الخماسية الدولية" المباشرة بها هذا الأسبوع، والتي ستشمل لاعبين أساسيّين على خط الرئاسة، كـ"التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، بعدما التقوا قبل أيام بري وكذلك رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي.

وإذا كانت جولة "الخماسية" هذا الأسبوع ستقتصر على القوتين المسيحيتين الرئيسيتين، ولو باستبدال رئيس "التيار الوطني الحر" جبران باسيل بالرئيس السابق ميشال عون، على الأرجح بسبب العقوبات الأميركية المفروضة على الأول، إضافة إلى البطريرك الماروني بشارة الراعي، فإنّ المطّلعين على "الأجندة" يؤكدون أنّ لهذه الجولة "تتمّة" في الأسابيع المقبلة، بحيث تشمل سائر القوى السياسية، بعد أن تتبلور "رؤية واضحة" لدى أطراف "الخماسية".

لكنّ اللافت أنّ تحرك "الخماسية" المستجدّ يأتي بعد عودة الحديث في الأيام الأخيرة عن حراك قطري على خط الملف الرئاسي أيضًا، وذلك على خلفية الزيارة التي أجراها المعاون السياسي لرئيس مجلس النواب النائب علي حسن خليل إلى الدوحة، والتي أحاطها الغموض من كلّ جوانبها، في ظلّ تسريباتٍ أشارت إلى زيارات مرتقبة لعدد من المسؤولين اللبنانيين إلى العاصمة القطرية، قد يكون باسيل من بينهم، وكذلك النائب السابق وليد جنبلاط.

إزاء ذلك، تُطرَح العديد من علامات الاستفهام، فهل قرّرت القوى الخارجية المعنيّة بالملف اللبناني، استعادة "زمام المبادرة" من جديد، بالتوازي مع المساعي المستمرّة لتكريس هدنةٍ عسكريّة في قطاع غزة، يفترض أن تنعكس في جنوب لبنان؟ وهل تنجح هذه القوى في إحداث "الخرق" هذه المرّة، في ظلّ حديث عن تقاطعها على مبدأ "الخيار الثالث"؟ وكيف يُفهَم الحراك القطري بهذا المعنى، "المستقلّ" في الظاهر عن حراك الخماسية المتجدّد؟.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ تحرّك سفراء "الخماسية" هذا الأسبوع ليس جديدًا، بل إنه يأتي استكمالاً لحراك كانوا قد باشروا به قبل أسابيع، في إطار ما يصفه البعض بـ"جسّ النبض" تمهيدًا لحراك أوسع من جانب الدول المعنيّة، علمًا أنّ زيارة كانت "مبرمجة" للموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان إلى بيروت منذ أشهر، إلا أنّها تنتظر نضوج الظروف التي تضمن نجاحها، وتمنع "استنساخ" سيناريو الزيارات السابقة غير الناجحة.

ويلفت هؤلاء إلى أنّ سفراء "الخماسية" الذي سبق أن التقى رئيسي مجلس النواب وحكومة تصريف الأعمال، ارتأوا بدء جولة على القوى السياسية، من بوابة "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" تحديدًا لأكثر من سبب، قد يكون من بينها "الرمزية" التي يتمتعان بها بوصفهما التكتلان المسيحيان الأكبر، ولكن أيضًا الدور الذي يمكن أن يلعباه في تشجيع أي مسار "رئاسي"، بعدما تحفّظا سابقًا على بعض الأفكار، كالحوار والتفاهم.

وفيما يشدّد العارفون على أنّ اللقاءات ستشمل الجميع، ولو بعد استراحة "نسبية" بمناسبة الأعياد، يلفتون إلى أنّ ما قد يكون مختلفًا في هذه الجولة عمّا سبقها، أنّها تأتي لتكرّس مقاربة "شبه موحّدة" بين الدول الخمس المشكّلة لـ"الخماسية"، بعيدًا عن التباينات التي حُكي عنها في الآونة الأخيرة، وفي ضوء انطباع لدى كثيرين بأنّ هذه الدول تسعى لتعبيد الطريق أمام "الخيار الثالث" رئاسيًا، بعدما اقتنعت بأنّ لا مجال لتحقيق أيّ خرق من دونه.

وقد لا تكون مبادرة "الاعتدال" بعيدة عن جولة "الخماسية" التي سبق لرئيس مجلس النواب أن أكّد أنّها تحظى بدعمها ومباركتها، بل إنّ العارفين لا يستبعدون أن يحثّ أطراف "الخماسية" الجميع على التجاوب مع هذه المبادرة، مع إبداء كلّ المرونة والليونة للمساعدة على ترجمتها وتطبيقها، علمًا أنّ البعض يلمّح إلى دور لعبته "الخماسية" أساسًا في بلورة هذه المبادرة، غير البعيدة عمليًا عن الطروحات التي كرّرتها في أكثر من مناسبة.

مع ذلك، ثمّة من يطرح علامات استفهام حول التزامن بين تجدّد تحرّك "الخماسية" وما حُكي عن حراك قطري متجدّد أيضًا، بعد زيارة النائب علي حسن خليل إلى الدوحة، علمًا أنّ العاصمة القطرية لا تزال مشغولة بمساعي إرساء الهدنة في غزة، ولو تعذّرت مع بداية شهر رمضان، وهو ما يقول العارفون إنّه قد يكون من "دوافع" تحرّك الخماسية في هذا التوقيت، لحثّ اللبنانيين على الاستفادة من الظرف من أجل إنجاز الاستحقاق.

في هذا السياق، ثمّة من يشير إلى أنّ الحراك القطري الذي كثُر الحديث عنه، لم يكن منطلقه هو الاستحقاق الرئاسي في حقيقة الأمر، بقدر ما تركّز على الوضع الأمني المتوتر في الجنوب، وسيناريوهات انزلاق لبنان إلى حرب شاملة وموسّعة، وذلك في سياق المفاوضات التي تخوضها الدوحة أساسًا مع أكثر من وسيط، حول الهدنة في غزة، ولكن أيضًا حول انعكاسات مثل هذه الهدنة على الجبهة اللبنانية المشتعلة منذ الثامن من تشرين الأول.

مع ذلك، يؤكد العارفون أنّ الاستحقاق الرئاسي حضر بالفعل على هامش المداولات، ليس فقط لأنّ الدوحة أصلاً نشطة على خلف ملف الرئاسة منذ ما قبل انشغالها بالحرب الإسرائيلية على غزة، ولكن أيضًا لأنّها ومعها شركاؤها في "الخماسية"، تعتقد أنّ على اللبنانيين اقتناص فرصة وانتخاب رئيس، لمواجهة مختلف السيناريوهات، ومنها انتهاء الحرب، وبدء ترتيبات "اليوم التالي" التي لا يقلّ شأنًا في لبنان عنه في قطاع غزة.

بهذا المعنى، فإنّ حراك الدوحة الأقرب إلى "الاستطلاع"، بانتظار أن تتكلّل مساعي الهدنة في غزة بالنجاح، لا يمكن مقاربته على أنّه "منفصل" عن حراك الخماسية، أو أنّ الدوحة تحاول أن تلعب دورًا أحاديًا، كما أوحى البعض، ولكنّه يأتي "تكامليًا" مع تحرّك "الخماسية"، التي تصرّ أساسًا على أنّ دورها يبقى "مشجّعًا" للبنانيين، الذين لا يجب أن يعتقدوا أنّ هناك من سينتخب الرئيس نيابةً عنهم، أو يفرض الرئيس عليهم.

لعلّ هذه "كلمة السرّ" التي لا يزال بعض اللبنانيين غير قادرين على استيعابها، ربما من ترسّبات مرحلة سابقة، كان اسم الرئيس فيها ينزل بالمظلّة، فيتداعى النواب لانتخابه بكلّ بساطة. الظروف باتت اليوم مختلفة، والمطلوب من اللبنانيين بدل انتظار هذه الدولة من هنا، أو مجموعة الدول من هناك، أن "يتداعوا" هذه المرّة، للتفاهم على إنجاز الاستحقاق، بعيدًا عن منطق تسجيل النقاط، أو تقاذف كرة المسؤولية، الذي لا يزال يطغى على ما عداه!.