يشكِّل عيد بشارة العذراء مريم مفصلًا أساسيًّا وجوهريًّا بين الإيمان المسيحيِّ وكلِّ المعتقدات الأخرى في العالم. فهو عيد التجسُّد الإلهيِّ حيث اتَّحدت الطبيعة الإلهيَّة بالطبيعة البشريَّة في أحشاء والدة الإله ليولد الربُّ يسوع المسيح منها بعد تسعة أشهر، وذلك في يوم الميلاد المجيد الَّذي هو عيد التجسُّد الإلهيِّ.

هذه المفارقة لا يمكن تمييعها ولا وضعها جانبًا، والمحبَّة الكاملة تكون بإعلان الحقيقة الإلهيَّة كما هي دون أيَّة مواربة أو تدوير للزاويا، لأنَّ هذا الإعلان هو وصيَّة إلهيَّة قالها الربُّ لتلاميذه، وتعني كلَّ مؤمن، لنكون أمناء على التسليم الشريف، ونحمل بشارة الإنجيل المقدَّس للمسكونة جمعاء.

يسبق عيد البشارة المجيد هذا العام «أحد الأرثوذكسيَّة» الَّذي هو بمثابة ذكرى لانتصار الإيمان المستقيم بعد اضطهاد دام حوالي 120 عامًا ضدَّ الأيقونة في القرنين الثامن والتاسع الميلاديِّ. عُرف هذا الاضطهاد باسم Iconoclasme أي «كسر الأيقونة».

رافضو الايقونة، إن كانوا من داخل الكنيسة أو من خارجها، رفضوا تصوير الله جملة وتفصيلًا. الرافضون مِن الداخل تحجَّجوا بالوصيَّتين الرابعة والخامسة من الوصايا العشر[1]، اللتين توصيان بعدم صنع تمثال يُعبَد أو صورة، وأغفلوا أنَّ الأيقونة أصبحت محقَّة في العهد الجديد بسبب صيرورة الله إنسانًا.

وقد قصد الله بوصيَّته قديمًا ألَّا يُعبَد إلَّا هو، ولكونه لم يكن قد تجسَّد بعد، فكان مستحيلًا أن يُصنَع ما يمثِّله. ولكنْ في المقابل أوصى الله النبيَّ موسى أن يصنع كَرُوبَيْنِ مِنْ ذَهَبٍ ويضعهما على غطاء تابوت العهد، وقال له بأنَّه هناك سيجتمع معه (خروج 25). وكان موسى والجميع يسجدون للتابوت كأنَّهم يسجدون للَّه. وهذا ما نفعله في العهد الجديد فنكرِّم ما تمثِّله الأيقونة.

الرافضون للأيقونة من خارج الكنيسة، رفضوا كلَّ عمليَّة التجسُّد الإلهيِّ وما يتبعه من صلب المسيح وقيامته، معتبرين هذا الأمر إساءة إلى نزاهة الله ومقامه، واعتبروه تشريكًا.

المسيحيَّة تجيب على كلِّ ذلك باستقامة قاطعة، وتقول بأنْ لا شيء يمكن أن يسيء إلى الله لكونه الله. وإمكانيَّة تجسُّده لا شكَّ فيها لأنَّه القادر على كلِّ شيء. أمَّا بخصوص التشريك فهو غير وارد ومرفوض أصلًا، لكون الطبيعة البشريَّة لم تمسَّ الجوهر الإلهيَّ، لا من قريب ولا من بعيد. والربُّ يسوع المسيح هو واحد في الجوهر مع الآب والروح القدس، وثلاثتهم إله واحد. وتُكمل لتقول إنَّ هذا الأمر كلَّه يُدرَكُ بالمحبَّة أي محبَّة الله اللامتناهية، وبالمنطق الإلهيِّ لا بالمنطق البشريِّ.

لهذا، كلُّ ما يحدث في أحد الأرثوذكسيَّة من صلوات وقراءات وتراتيل، وزيَّاح المؤمنين مع أيقوناتهم، ينبثق من التدبير الإلهيِّ لخلاصنا ويشهد له.

فهذا الأحد يفتتح الصوم الأربعينيَّ المقدَّس، بهدف أن يكون صومنا مستقيمًا وجهادنا مستقيمًا وإيماننا مستقيمًا، من دون أيِّ اعوجاج.

فما أعلنه المجمع المسكونيُّ السابع عام 787م حول الأيقونة، لم يكن جديدًا على الكنيسة، ولا هو من صنع بشريٍّ على الإطلاق، بل هو كان قائمًا منذ بداية المسيحيَّة، والرسائل بين الأساقفة وكتابات الآباء القدِّيسين من القرون الأولى للمسيحيَّة تشهد على لاهوت الأيقونة والتصوير الكنسيِّ، إن في الدياميس في روما وغيرها، أو لاحقًا في الكنائس والمنازل.

فالأيقونة هي النموذج الثاني للنموذج الأوَّل، أي ما تمثِّله، والأيقونة الأولى هي الربُّ الَّذي خلقنا عليها قبل أن يتجسَّد. لهذا، فالإكرام للأيقونة يكون لما تشير إليه. فحضورها مقدَّس، وهي تدعونا لكي نتقدَّس لأنَّ القداسة هي مقصد وجودنا.

فكلُّ أيقونة بالإضافة إلى كونها نافذة إلى الملكوت، هي إنجيل مصوَّر، وتُقرَأ فنِّيًّا ولاهوتيًّا في آن. الجانب الفنِّيُّ فيها يعبِّر عن الجانب الإيمانيِّ الَّذي هو الأساس، فتتكوَّن عندئذ العلاقة الشخصيَّة بين المؤمن والأيقونة، الَّذي يدخل بدوره في البعد الثالث للأيقونة غير المنظور، وذلك من خلال الوجوه المتألِّهة والنورانيَّة البعيدة كلَّ البعد عن الجمال البشريِّ ومقاييسه. فالأيقونة تضعنا أمام قامات تحاكي النور، وتحاكينا بالنور لأنَّها امتلأت من النور الإلهيِّ.

الجدِّيَّة في تعابير الوجوه في الأيقونة هي استقامة والتزام وحضور إلهيٌّ، وليس كما يظنُّ البعض عبوسًا، بل هي فرح داخليٌّ وسلام لا يوصف لأنَّه ليس من هذا العالم.

كذلك بالإضافة إلى الأشياء المشتركة في الأيقونات، من عدم وجود ظلٍّ لأنَّ النور الإلهيَّ يضيء كلَّ شيء، وأنَّ العينين كبيرتان لأنَّهما تحدِّقان بالملكوت بشكل دائم، والأنف طويل ومستقيم لأنَّه يتنشَّق رائحة الملكوت باستقامة، والفم مطبق لأنَّ الصمت لغة الدهر الآتي، وأيضًا هو صغير لأنَّه فم صائم، والأذنين كبيرتان لأنَّهما تسمعان كلام الله. فبالإضافة إلى ذلك كلِّه، نجد أنَّ كلَّ أيقونة لها ما تمثِّله.

هنا ندخل إلى أيقونة البشارة الَّتي تقتصر على قامتين تتقابلان. الأولى من أرضنا، وهي والدة الإله، والثانية سماويَّة، وهي الملاك جبرائيل الَّذي هو على عجلة من أمره ليعلن الخلاص الإلهيَّ.

السماء والارض تلتقيان وجهًا لوجه، تحت مباركة الثالوث القدُّوس، حيث الروح القدس يتوجَّه نحو مريم الطاهرة.

أحيانًا نرى في يد العذراء كبكوب نسيج يرمز إلى والدة الإله الَّتي نسجت جسدًا لطفلها الإلهيِّ. كذلك نرى في بعض أيقونات البشارة مبنيين في الخلفيَّة يشيران إلى العهدين القديم والجديد.

فالأيقونة مع الخدمة الليتورجيَّة تساعدنا على فهم لاهوت العيد. هذا التكامل اللاهوتيُّ-الفنِّيُّ يأخذنا إلى بهاء الملكوت السماويِّ وروعته وجماله. هذا ما نحن مدعوُّون إليه منذ اللحظة الأولى الَّتي خلقنا الله عليها، إذ صنعنا على صورته كشبهه. وكلمة «صورته» باللغة اليونانيَّة، لغة الترجمة السبعينيَّة للعهد القديم، هي «أيقونة».

نعم الله خلقنا أيقونات، وأعطانا كلَّ الإمكانيَّات لتحقيق الشبه الإلهيِّ. يبقى أن نقتبل خلاصه، ونعشق جماله، ونجاهد صادقين، ونكون تائبين، ومستقيمين، وجميلين وصالحين.

إلى الربِّ نطلب.

[1] "لاَ تَصْنَعْ لَكَ تِمْثَالًا مَنْحُوتًا، وَلاَ صُورَةً مَا مِمَّا فِي السَّمَاءِ مِنْ فَوْقُ، وَمَا فِي الأَرْضِ مِنْ تَحْتُ، وَمَا فِي الْمَاءِ مِنْ تَحْتِ الأَرْضِ. لاَ تَسْجُدْ لَهُنَّ وَلاَ تَعْبُدْهُنَّ، لأَنِّي أَنَا الرَّبَّ إِلهَكَ إِلهٌ غَيُورٌ" ( خروج 4:20-5).