بخلاف العادة، يمرّ عيدا الفصح المجيد لدى الطوائف المسيحية التي تتبع التقويم الغربي، والفطر السعيد لدى الطوائف الإسلامية، من دون أن يعيد السياسيون "الطرفة" المعتادة، المألوفة وغير الظريفة، حول "عيديّة" يريدون تقديمها للبنانيين، لا تكون في العادة سوى "واجباتهم الدستورية"، على غرار انتخاب رئيس الجمهورية مثلاً، وهي العملية المعطّلة منذ أواخر 2022، أو حتى إجراء الانتخابات البلدية في موعدها المؤجّل لعامين كاملين.

لعلّ سبب عدم تكرار هذه "الطرفة" يكمن في أنّ مقوّماتها تغيب، ولو بالأمنيات حتى، فعلى الرغم من كلّ الاستحقاقات الداهمة، ومن الظروف الصعبة، إلا أنّ البلد في "إجازة" منذ ما قبل عيد الفصح، والكثير من السياسيين غادروه بدواعي "الترفيه عن النفس"، ما أرخى "جمودًا سياسيًا" على كلّ المستويات، وإن خرقها البعض بحديث مكرَّر عن "حركة واعدة" مرتقبة بعد انتهاء العطلة، قد تفضي إلى "الانفراجة الموعودة" منذ أمَدٍ بعيد.

لكنّ "الرهان" على ما بعد عيد الفطر يثير بدوره الكثير من التساؤلات والتكهّنات، ولا سيما أنّ "عطلة العيد" جاءت بعد "ترنّح" المبادرات التي كانت قائمة، من حراك مجموعة "الخماسية" الذي أضحى أقرب ما يكون إلى "جولات استطلاعية" يقوم بها السفراء، من دون أن تحدث أيّ خرق، إلى مبادرة "الاعتدال" التي قيل إنّها نجحت حيث عجز غيرها، فإذا بها تصطدم بتفسيرات وشروط متناقضة، بل تُعلَّق بانتظار أجوبة تأخّرت كثيرًا.

بهذا المعنى، قد يكون "الثابت" الوحيد هو أنّ البلد في "إجازة" تستمرّ لما بعد عطلة عيد الفطر، وربما ما بعد بعدها، لتُطرَح علامات استفهام عمّا هو "مأمول" بعدها، فهل تعود "الحركة" فعلاً إلى الملف الرئاسي، وتُفعَّل بالتالي الوساطات الداخلية والخارجية، أم أنّ مرحلة "الانتظار" ستطول أكثر، ربطًا بالوضع "الملتهب" في المنطقة ككلّ، ولا سيما أنّ الوضع الأمني الناشئ عن حرب غزة لا يزال يحتلّ "الأولوية" في كلّ المتابعات؟

في المبدأ، وعلى الرغم من "الربط التلقائي" الذي يروّج له السياسيون بين "عطلة الأعياد" و"الجمود الرئاسي"، فإنّ العارفين يعتبرون أنّه لا يعكس بدقّة حقيقة المعطيات على الأرض، ولا سيما أنّ الوساطات التي كانت قائمة قبل العطلة، سواء على المستوى الداخلي أو الخارجي، "تفرملت" قبل العطلة إن جاز التعبير، وذلك بفعل عدم نضوج المعطيات، فضلاً عن مراوحة المواقف مكانها، وعدم وجود ما يؤشّر لأيّ تنازلات متبادلة بين مختلف الأطراف.

وقد يكون ما حصل مع ما سُمّيت بمبادرة "الاعتدال" خير دليلٍ على ذلك، ولو أنّ البعض يعتبر هذه المبادرة "نسخة منقّحة" عن المبادرة الحوارية لرئيس مجلس النواب نبيه بري، بل إنّ مقرّبين من الأخير لا يتردّدون في القول إنّها "من بنات أفكاره"، فالواقع يقول إنّ هذه المبادرة التحقت بسابقاتها، بعدما اصطدمت بالشروط والشروط المضادة، ولو أنّ القيّمين عليها يصرّون على أنّها لم تنتهِ بعد، وأنّ "جولة ثانية" من اللقاءات على خطّها "مبرمجة" بعد العيد.

لكنّ العارفين يذكّرون بأنّ هذه الجولة كانت "مجدولة" منذ وقت طويل، على الرغم من التباينات التي حصلت في قراءتها، لكنّ شيئًا لم يحدث، وكانت الذريعة أنّ كتلة "الاعتدال" تنتظر أجوبة، خصوصًا من جانب "حزب الله"، الذي يُقال إنّه سيسلّم ردّه في غضون أيام، في وقت بات واضحًا وفق المتابعين، أنّ المبادرة "تترنّح"، وأنّ لعبة "تقاذف المسؤوليات" هي الطاغية على خطه، مع حرص كل فريق على رمي كرة "التعطيل" في مرمى الفريق الآخر.

وقد لا يكون مصير حراك "الخماسية" مختلفًا عن مبادرة "الاعتدال"، علمًا أنّ بعض الأوساط السياسية تتحدّث عن "تكامل" بينهما، في ضوء "تبنّي" سفراء الدول المعنيّة بهذا الحراك للمبادرة التي عُدّت "أفضل الممكن" في الظروف الحالية، إلا أنّ علامات استفهام تُطرَح في هذا السياق أيضًا حول طبيعة هذا الحراك والجدوى المتوخّاة منها، بعيدًا عن رغبة هذه الدول في إثبات الوجود، وحثّ اللبنانيين على انتخاب الرئيس في أقرب وقت ممكن.

وتبدو هذه الأسئلة أكثر من "مشروعة"، بعدما تحوّل "حراك الخماسية" إلى مجرّد لقاءات مع مختلف الأفرقاء، الذين يُقال إنّ لائحتهم ستتوسّع بعد العيد، لتشمل "حزب الله" و"التيار الوطني الحر" وغيرهما، في حين تغيب أيّ مؤشّرات عن حراك فعليّ، كان بدأ بزيارات الموفد الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، الذي تشير كلّ المعطيات إلى أنّ لا زيارة جديدة مدرجة على أجندته في الوقت الحالي، أقلّه بانتظار إشارات واضحة من السفراء بحصول تقدّم.

هكذا، وفي ضوء المعطيات الثابتة عن ترنّح المبادرات، وعدم قدرتها فعليًا على إحداث "خرق حقيقي"، طالما أنّ المواقف لا تزال على حالها، بين تمسّك معسكر "حزب الله" بترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية، ورفض المعسكر المناهض أيّ حوار معه ما لم يتخلّ عن هذا الترشيح سلفًا، يصبح التساؤل مشروعًا أيضًا عن دلالات الرهان على ما بعد عيد الفطر، وما إذا كان "وهميًا"، شأنه شأن رهانات قديمة جديدة ربطت الرئاسة باستحقاقات ومناسبات عدّة.

يقول العارفون إنّ "الرهان الفعليّ" قد لا يكون سوى على التطورات المتوقعة على خط الحرب الإسرائيلية على غزة، وتلك الموازية لها على جنوب لبنان، فحتى لو كان صحيحًا أنّ معظم القوى الداخلية والخارجية ترفض تبنّي فرضية "ربط المسارات"، وتعتبر ملف الرئاسة "منفصلاً" عن حرب غزة، إلا أنّ هذا "الربط" حاصل على أرض الواقع، ولو تفاوتت التقديرات حول شكله، بين الرهان على نتائج الحرب، أو انتظار الهدوء ليس إلا.

هنا، ثمّة من يشير إلى أنّ تحديد موعد "ما بعد العيد" لاستعادة النشاط يرجع في الحقيقة إلى وجود "رهان" على التوصّل إلى "هدنة" في غزة في عيد الفطر، بعدما عجز الوسطاء عن تأمين الأرضيّة لها خلال شهر رمضان، حتى لو كان هذا الأمر لا يزال يصطدم بصعوبات تقنية ولوجستية، في ظلّ تباعد الموقفين الفلسطيني والإسرائيلي، إذ إنّ هناك من يعتقد أنّ الطرفين ما عادا قادرين على الاستمرار بالوتيرة نفسها، في ضوء تصاعد الغضب الدوليّ.

ويقول العارفون إنّ الرهان الحقيقي هو على "تحريك" ملف الرئاسة بعد التوصّل إلى هذه الهدنة للعديد من الأسباب، من بينها أنّ الوسطاء الخارجيين سيكونون أكثر قدرة على الحركة، ومنهم الوسيط القطري الذي يلعب دورًا أساسيًا في المفاوضات، ومن بينها أيضًا انطباع سائد بأنّ الهدنة ستكون "فرصة مثالية" لحثّ الأطراف على انتخاب الرئيس أقلّه من باب "الواقعية السياسية"، ولمواكبة التحضيرات لما بات يصطلح على وصفه بـ"اليوم التالي" للحرب.

في النتيجة، الثابت الوحيد هو أنّ "إجازة الأعياد" تحافظ على "تفوّقها" في لبنان، رغم كلّ شيء، فلا الظروف السياسية الدقيقة، ولا الظروف الأمنية، يمكن أن تهزّها، أو تعدّل فيها. أما الاستحقاقات الأخرى، فعلى أهميتها وحساسيتها، فيمكنها أن تنتظر، ومنها الاستحقاق الرئاسي المؤجَّل أصلاً منذ 2022، والذي يبدو كلّ فريق مصمّمًا على تأجيله إلى ما شاء الله، حتى تحقيق مطالبه، وهنا بيت القصيد!.