شكّل الهجوم الإيراني على إسرائيل "الحدث" دون منازع خلال اليومين الماضيين، متفوّقًا على تطورات الحرب الإسرائيلية التي لم تنتهِ فصولاً على قطاع غزة، وذلك على الرغم من الانقسام "العمودي" في مقاربته، بين من تحمّس له بوصفه "سابقة تاريخيّة"، ومن اعتبره في المقابل "مسرحيّة سخيفة"، ووسط ترقّب لتبعاته، مع الوعيد الإسرائيلي بردّ مضاد "حتميّ"، وإن كان الطرفان تقاطعا على اعتبار "الرسائل" التي انطوى عليها أهمّ من "أثره" المحدود.

وبانتظار الردّ الإسرائيلي، إن حصل، والذي لا يزال يصطدم بالرفض الغربي، ولا سيما الأميركي، باعتبار أنّ الولايات المتحدة لا تجد "مصلحة" في الخوض بحرب إقليمية مع إيران في هذا التوقيت "الثقيل" على الداخل الذي يستعدّ لمنافسة انتخابية "حامية" بين الرئيس جو بايدن و"سلفه" الرئيس دونالد ترامب، كان لافتًا أنّ الجبهة اللبنانية شهدت "تصعيدًا نسبيًا" في الساعات الأخيرة، ولو بقي بدوره "محدودًا" بعض الشيء، مقارنة مع المجريات "الروتينية".

لكنّ هذا التصعيد "سابق" للهجوم الإيراني، بحسب ما يقول العارفون، ولا سيما أنّ التهديدات العسكرية الإسرائيلية كانت قد تصاعدت في الأيام الأخيرة، ووصلت إلى ذروتها مع إعلان الجيش الإسرائيلي قبل أيام استعداده للانتقال "من الدفاع إلى الهجوم"، متحدّثًا عن إكمال الاستعدادات اللوجستية، بما يسمح بـ"تجنيد فوري لقوات الاحتياط عند الطوارئ ووصولها إلى خط الجبهة خلال فترة وجيزة، مع كل المعدات اللازمة للقتال".

وبموازاة التهديدات العسكرية، يواصل المستوى السياسي الإسرائيلي رفع السقف في المواجهة، وهو ما فعله عضو مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس قبل أيام حين قال إنّ "لبنان سيدفع الثمن إذا تمّ توسيع نطاق الحرب"، فهل يعني ذلك أنّ جبهة لبنان قد تشهد "تصعيدًا نوعيًا" في المرحلة المقبلة؟ وما حقيقة التقديرات التي تشير إلى أنّ الردّ الإيراني قد يرفع مثل هذا الاحتمال، بحيث يكون لبنان هو "ساحة الاشتباك" بين تل أبيب وطهران؟!.

في المبدأ، يقول العارفون إنّ "لا علاقة مباشرة" بين التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة ضدّ لبنان، وبين الهجوم الإيراني الأخير على إسرائيل، ولو أنّ هناك من ربط تصاعدها في الأسبوعين الماضيين بخشية تل أبيب من أن يأتي الرد عبر "حزب الله" تحديدًا في لبنان، في حين كرّس الهجوم قواعد اشتباك جديد، نقلت "حرب الظلّ"، كما كانت توصَف، إلى أرض الواقع، مع تسجيل أول "مواجهة مباشرة" بين الجانبين، في تاريخ الصراع بينهما.

بهذا المعنى، يمكن النظر إلى التهديدات الإسرائيلية الأخيرة للبنان، من زاويتين مختلفتين، أولاهما "الاشتباك الشامل" الدائر في المنطقة ككلّ، ضمن ما يحلو لمؤيدي "حزب الله" بتسميته بـ"وحدة الساحات"، ولو لم يرتقِ لمستوى "الحرب الشاملة" بأتمّ معنى الكلمة، فيما تنحصر الثانية بتطورات "جبهة الإسناد" اللبنانية التي يصرّ الجانب الإسرائيلي على "إنهائها"، خلافًا لرغبة الحزب بـ"ربطها" بمصير الحرب المستمرّة على قطاع غزة.

وإذا كان هناك من يضع التهديدات الإسرائيلية بتوسيع الحرب لتشمل "لبنان بأسره"، في سياق "الحرب النفسية" بين تل أبيب و"حزب الله"، الذي يلعب دوره أيضًا على هذه الحرب، وضمن ذلك ما قاله أمينه العام السيد حسن نصر الله في أحد خطاباته الأخيرة، حين أطلق مقولة "مرحبًا بالحرب"، تعبيرًا عن جهوزيته لها إذا ما فُرِضت عليه، بمعزل عن الانقسامات الداخلية بشأنها، فإنّ العارفين لا يستبعدون أن تكون ضمن "عدة الشغل" تحضيرًا للمفاوضات.

في هذا السياق، يقول العارفون إنّ إسرائيل ولو رفعت من وتيرة تهديداتها، إلا أنّها لا تسعى فعلاً لحرب مع لبنان، وهي التي لم تستفق بعد من "كابوس" حرب غزة، التي أضرّت بصورتها أمام العالم، من دون أن تحقّق أهدافها المُعلَنة على الأقلّ منها، ولكنها تريد التوصل إلى "صفقة" تضمن لها وضع حدّ لما تعتبره "تهديدًا" على جبهتها الشمالية، التي لا تزال "فارغة" من المستوطنين غير المستعدّين للعودة بلا حلّ جذري، بعد ستة أشهر على اندلاع الحرب.

لكن، حتى لو كانت التهديدات الإسرائيلية المتصاعدة "سابقة" للهجوم الإيراني، وبمعزل عمّا إذا كانت "جدية" أم في سياق "الحرب النفسية"، ثمّة تساؤلات تُطرَح عن "الانعكاسات المحتملة" لهذا الهجوم على الداخل اللبناني، في ظلّ "تسريبات" تلمّح إلى أنّ إسرائيل قد تجد في الجبهة اللبنانية، "المكان الأمثل" لتبادل الرسائل مع إيران، إذا ما بقي الغرب مصرًّا على رفض مواجهة مباشرة يمكن أن تفضي إلى حرب إقليمية شاملة.

في هذا السياق، يتحدّث العارفون عن وجهتي نظر متباينتين، تقول الأولى إنّ هذا الاحتمال ليس واردًا، لأنّ ما كرّسه الهجوم الإيراني هو أنّه غيّر قواعد الاشتباك، وجعل المواجهة بين طهران وتل أبيب "مباشرة"، من دون الحاجة إلى "الوسطاء والوكلاء" كما كان يجري في السابق، وبالتالي فإنّ الرد الإسرائيلي، إن حصل، يجب أن يكون "مباشرًا"، وليس ضمن الجبهات المفتوحة أصلاً منذ أشهر، والتي لم يكن هو أصلاً من فتحها.

أما وجهة النظر الثانية، فلا تستبعد أن يذهب الإسرائيلي إلى تصعيد المواجهة مع لبنان، كجزء من "ردّ الاعتبار"، إن جاز التعبير، خصوصًا إذا حافظت الولايات المتحدة على موقفها الممانع للتصعيد المباشر، الذي قد يرقى لمستوى "الفيتو"، علمًا أنّ هناك من يعتقد أنّ مثل هذا التصعيد في مختلف ساحات المواجهة، من لبنان إلى سوريا، مرورًا بالعراق واليمن، قد يشهد "تسخينًا متزايدًا" في المرحلة المقبلة، خلافًا لكلّ انطباعات "التهدئة".

في مطلق الأحوال، يقول العارفون إنّ كل السيناريوهات تبقى "مفتوحة" على الجبهة اللبنانية وغيرها في المرحلة المقبلة، وهي "سيناريوهات" سابقة ولاحقة للهجوم الإيراني وبالتالي غير مرتبطة به حصرًا، ولو أنّ المتابعين يميلون إلى الاعتقاد بأنّ كلّ "السخونة" تندرج في خانة "رفع السقوف" تحضيرًا لمرحلة "اليوم التالي" للحرب، وهي المرحلة التي يفترض أن يستلم زمامها المبعوث الأميركي آموس هوكستين، بالدبلوماسية أولاً.

هكذا، لا يبدو الهجوم الإيراني بحدّ ذاته "نقطة فاصلة" على خطّ الجبهة اللبنانية، فما قبله وما بعده تبقى الجبهة "مفتوحة" ضمن قواعد اشتباك فرضها الطرفان، ولم يقتربا حتى الآن من أيّ اتفاق بشأنها، فـ"حزب الله" لن يغلقها قبل إنهاء إسرائيل حربها على غزة، فيما الإسرائيليون يبحثون عن "ضمانات" لعدم حصول التصعيد من جديد، كما يرفضون تكريس سابقة أنّ الحزب يفتح الحرب ويغلقها متى وكيفما شاء، وبشروطه!.