فيما انشغل العالم في الأيام القليلة الماضية بحدثين إقليميَّين ستكون لهما انعكاساتهما على الوضع "الملتهب" أساسًا في الإقليم برمّته، من وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي المفاجئة، إثر تحطم مروحيته، إلى تحرّك المحكمة الجنائية الدولية ضدّ قادة إسرائيل وحركة حماس، في ما وُصِف بالسابقة القانونيّة، بقي الاهتمام مركّزًا على المستوى الداخلي باستحقاق الانتخابات الرئاسية، ولو تبدّدت الآمال بإنجازه بحلول نهاية أيار، وفق الإطار الزمني الذي حدّدته "الخماسية".

على العكس من ذلك، ثمّة من عَمَد إلى إجراء "مقارنة" بين الوضع في لبنان، الذي لا يزال "مشلولاً" بلا رئيس للجمهورية منذ سنة وسبعة أشهر، والوضع في إيران، التي استطاعت أن تستوعب سريعًا "صدمة" بحجم وفاة الرئيس، من دون أن يؤثّر ذلك على انتقال السلطات "السَّلِس" إلى نائبه، وتحديد موعدٍ لانتخابات رئاسية وفق الدستور في غضون 50 يومًا، يُعتقَد على نطاق واسع أنّها ستفضي في نهاية المطاف إلى انتخاب رئيس أصيل.

ومع أنّ المقارنة قد لا تكون في مكانها برأي كثيرين، لاختلاف الظروف، فضلاً عن الفوارق في نظام وتركيبة الحكم بين البلدين، وما تنطوي عليه من تعقيدات وتشابكات، فإنّ ما لا يخفى على أحد أنّها أعادت طرح "إشكاليّة" انتخاب الرئيس، بين الدستور الذي يتيح برأي البعض "تكريس الفراغ" في الرئاسة، ولو بناءً على اجتهادات "متناقضة"، وبين الممارسة السياسية التي تجعل "التطبيع مع الفراغ" أمرًا بديهيًا، لدرجة أنّ الاستحقاق لم يعد "أولوية".

ولعلّ أصداء بيان "الخماسية" الأخير تعزّز هذا الاعتقاد، بدل أن تخفّف من وطأته، فالمواقف التي صدرت عن معظم الأفرقاء، وإن غُلّفت بإيجابية ظاهرة، لم توحِ بأنّ الظروف "نضجت" للانتخاب، بدليل أنّ لعبة "تقاذف كرة المسؤولية" هي التي بقيت في الصدارة، فهل يعني ما تقدّم أنّ "الفرصة الأخيرة" التي ألمح إليها بيان "الخماسية" بإطاره الزمني الواضح قد "طارت"، وهل تعلن "الخماسية" استسلامها إذا ما أجهِضت جهودها هذه المرّة أيضًا؟.

عندما صدر بيان "الخماسية" تنفّس الكثيرون الصعداء، باعتبار أنّه ضرب أكثر من عصفور بحجر، إذ أعاد ملف الرئاسة إلى الصدارة، بعدما بقي متربّعًا "على الهامش" منذ الحرب الإسرائيلية على غزة، وأوحى بجدّية على خطّه تكاد تكون الأكبر منذ الفراغ الرئاسي، خصوصًا مع الحديث عن إطار زمني محدّد، إلا أنّ الأمر لم يدُم طويلاً، قبل أن تكشف المواقف الأولية، على "إيجابيتها"، أنّ أيّ "مرونة" لم تُرصَد في تموضع مختلف الأطراف.

في هذا السياق، برز موقف رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي سارع إلى الترحيب بجهد "الخماسية"، متبنّيًا ما خلصت إليه، باعتبار أنّه "يتبنّى" عمليًا ما دأب رئيس المجلس على الدعوة إليه منذ اليوم الأول، سواء في مبادراته الحوارية المتتالية التي اصطدمت بالشروط والشروط المضادة، أو في مبادرة كتلة "الاعتدال" التي يقول المحسوبون على بري إنّ الأخير لعب دورًا فعّالاً في "بلورتها"، بوصفها نسخة "محدّثة" عن مبادرته الحوارية.

لكنّ موقف بري الذي أثار المزيد من التساؤلات حول ما إذا كان يمكن أن يتخلّى عن فكرة "إدارة" المشاورات، التي كانت تصطدم بتحفظات بعض الأطراف، فتح بابًا لسجال من نوع آخر، حينما استبدل منطق "الجلسة المفتوحة" التي نصّ عليها بيان "الخماسية" صراحةً، بفكرة "الجلسات المتتالية"، منعًا لتعطيل دور المجلس التشريعي، وفق ما يقول، وهو ما يرى البعض في المعارضة أنه "ينسف" أساس المبادرة، ويمهّد لتكريس الأمر الواقع.

وعلى خط المعارضة، جاء موقف رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع ليوحي بأنّ شيئًا لم يتغيّر، ولو أنّ الأخير تعمّد أيضًا الحفاظ على "نَفَس إيجابي" في مقاربة الموضوع، حين قال إنّ "الخماسية" تعمل للرئاسة أكثر من بعض الفرقاء اللبنانيين، خصوصًا من يقومون بتعطيلها، بينما تسعى هي إلى البحث عن مخارِج، ودعاها إلى أن تتابع عملها "عبر الضغط على محور الممانعة لكي يكفّ عن دوره التعطيلي"، على حدّ تعبيره.

وإذا كان جعجع رمى كرة "التعطيل" في ملعب بري تحديدًا، الذي وصفه بـ"شيخ المعطّلين"، فإنّه أيضًا لم يلتزم بروح المبادرة بالمطلق، وفق ما يرى خصومه، فهو أصرّ على موقفه الرافض للحوار، ولو تحت اسم التشاور، وإن أقرّ بأنّ هناك الكثير من القضايا التي تحتاج إلى حوار، ولكن بعد انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة أصيلة، وهو ما يترك الأمور في المربع نفسه، أو يعيدها إلى نقطة الصفر، بين الشروط والشروط المضادة.

إزاء ما تقدّم، يصبح السؤال عن احتمال إعلان "الخماسية" استسلامها، وربما اعتكافها، مشروعًا، ولا سيما أنّ هناك من قرأ بيان عوكر أصلاً على أنّه "إعلان عجز"، وفي أحسن الأحوال، أنه "الفرصة الأخيرة"، وربما على العكس من ذلك، "الإنذار الأخير"، قبل ترك اللبنانيين يتدبّرون أمرهم، ولا سيما أنّها كانت واضحة أنّ عدم انتخاب رئيس يترك لبنان مشرّعًا أمام مجهول "الصيف الساخن" الذي تكثر التهديدات بالذهاب إليه.

في المبدأ، وعلى الرغم أنّ هذا الاحتمال قد يكون واردًا، إلا أنه مُستبعَد بحسب ما يقول العارفون، الذين يشيرون إلى أنّ كلّ المؤشّرات تدلّ على أنّ "الخماسية" مصرّة على استكمال مساعيها، وأنها لن تتخلى عن لبنان، ولو أنها وصلت إلى قناعة ضمنية بأنّ اللبنانيين أنفسهم لا يساعدونها، وكأنهم لا يشعرون بحجم الخطر المحدق، في حال بقي لبنان بلا رئيس في مرحلة "ما بعد الحرب"، وتحديدًا في مفاوضات "اليوم التالي" التي تقترب أكثر فأكثر.

ولعلّ ما يؤشّر إلى ذلك أيضًا، يتمثّل في بعض الحراك "النّشِط" لبعض دول "الخماسية"، ولو بصورة مستقلّة، فثمّة حديث عن أنّ الرياض مثلاً بدأت تتحرّك على خطّ إقناع الأطراف المحسوبين عليها بالذهاب إلى "المشاورات المحدودة" لعلّها تشكّل المدخَل إلى تفاهم، في وقت ليس سرًا أن الدوحة مستمرّة بدورها بمساعيها المنفصلة والمنسّقة، وهي استقبلت هذا الأسبوع رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" السابق وليد جنبلاط.

وتبقى الأنظار متّجهة إلى حراك باريس بالتحديد، التي تأبى "الاستسلام" رغم كلّ الخيبات التي منيت بها منذ أطلقت ما سُمّيت بـ"المبادرة الفرنسية"، في ظلّ حديث متصاعد عن إعادة "جدولة" زيارة للمبعوث الرئاسي الفرنسي جان إيف لودريان، وهي زيارة كان قد أرجأها بانتظار انتهاء حراك السفراء، ولا سيما أنه يرغب في أن تكون الزيارة هذه المرة "مفصلية وحاسمة"، وبالتالي أن تكون نتيجتها "مضمونة" سلفًا، خلافًا لزياراته السابقة.

في النتيجة، يبدو أنّ الظروف لم تنضج بعد لانتخاب رئيس للجمهورية، لا بحلول نهاية أيار، ولا ربما بعده، إذا ما صحّت الفرضية القائلة بأنّ "الإطار الزمني" الذي نصّ عليه البيان كان عبارة عن "مهلة حثّ" لا أكثر. لكنّ الثابت أنّ إنجاز الاستحقاق يبقى مرّة أخرى مرهونًا بتوافر الإرادة الصادقة، وهو ما يتطلب في المقام الأول اقتناع مختلف الأطراف بالجلوس على طاولة واحدة، من أجل التفاهم بالحدّ الأدنى وهنا بيت القصيد!.