صحيح أنّ زيارة رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" السابق وليد جنبلاط إلى العاصمة القطرية الدوحة، لا تبدو معزولة عن الحراك الذي تنشط على خطّه الدوحة في المنطقة، ولبنان في صلبها، وقد دفعها إلى فتح قنوات التواصل مع مختلف الأفرقاء، ودعوة العديد من القادة إلى زيارتها، إلا أنّ هناك من ينظر إلى زيارة "البيك" تحديدًا بشكل مغاير، ما يعطيها أبعادًا أكبر وأكثر أهمية، للكثير من الاعتبارات والحسابات المتداخلة والمتشابكة.

من هذه الاعتبارات، أنّ الزيارة التي قام بها جنبلاط إلى الدوحة هذا الأسبوع كانت الأولى من نوعها منذ أيار 2008، حين لبّى مع سائر الأفرقاء دعوة دولة قطر إلى جمعهم على طاولة واحدة، بعدما أخذت الأوضاع طابعًا دراماتيكيًا خصوصًا في أعقاب أحداث السابع من أيار، لتثمر تلك الزيارة ما سُمّي حينها بـ"اتفاق الدوحة"، الذي لا تزال بعض مفاعيله حاضرة إلى اليوم، ولو لم يشكّل بديلاً عن اتفاق الطائف.

وإذا كان السؤال عن إمكانية الذهاب إلى سيناريو شبيه، بعدما اصطدمت كلّ الجهود المحلية لإنهاء أزمة الفراغ الرئاسي بالحائط المسدود، فإنّ أهمية الزيارة تكمن أيضًا في الدور الذي يمكن أن يلعبه جنبلاط تحديدًا في هذا السياق، ولا سيما أنّه وعلى الرغم من كلّ ما يُحكى عن تراجع دوره وحيثيّته، لا يزال مصنَّفًا "بيضة قبان" بشكل أو بآخر، فالمعارضة تحتسبه في صفوفها، من دون أن يكون خصمًا فعليًا لـ"حزب الله".

من هنا، اتجهت الأنظار إلى المواقف التي أطلقها جنبلاط في الدوحة، والتي استقطبت الكثير من الاهتمام، بدءًا من "التهويل" بأنّ الحرب في المنطقة ليست إلا في بداياتها، مرورًا بالإشادة بالتجربة القطرية والدور الذي يمكن أن تلعبه الدوحة، وصولاً إلى التأكيد على منطق "التسوية والتوافق"، فكيف يمكن تفسير مواقف جنبلاط هذه، وأيّ رسائل أراد إيصالها سواء للداخل أو الخارج، وهل يمكن القول إنّه حسم تموضعه مع هذا المعسكر أو ذاك؟.

إذا كان جنبلاط معروفًا على نطاق واسع بما تصنَّف "تقلّباته السياسية"، بحيث يُعَدّ من القادة الذين لا يجدون حَرَجًا في الانقلاب على تموضعاتهم بين ليلة وضحاها، فإنّ الأكيد أنّه لا يفعل ذلك عشوائيًا، وإنما بناء على معطيات يكوّنها من استشراف الأحداث، وتقدير المصلحة بموجب الصورة التي تتشكّل لديه، ولعلّ ذلك تحديدًا ما يجعل كثيرين يتوقفون عند كلّ ما يدلي به الرجل من مواقف، وآخرها ما صدر عنه على هامش زيارته إلى الدوحة.

في هذا السياق، يرصد المتابعون "نَفَسًا تشاؤميًا"، إن جاز التعبير، حرص جنبلاط على تكريسه من الدوحة تحديدًا، على مستوى أوضاع المنطقة، وهو ما ترجِم صراحةً في حديثه عن أنّ "الحرب ليست إلا في بداياتها"، وأنّها قد تتجاوز الانتخابات الأميركية، علمًا أنّ ذلك قد يكون مؤشرًا سلبيًا، لأنّ "رؤساء أميركا وغير أميركا لا يبالون لا بفلسطين ولا بجنوب لبنان"، وفق قوله، فكيف بالحريّ عندما يكون استحقاق الانتخابات قد أصبح وراءهم.

وإذا كان صدور هذا الكلام من الدوحة تحديدًا يزيد من "سلبيّته"، باعتبار أنّ القطريين معنيّون مباشرةً بالمفاوضات الحاصلة في المنطقة من أجل إتمام صفقة تبادل الأسرى، وبالتالي التوصل إلى وقف لإطلاق النار في غزة يمتدّ افتراضيًا إلى جنوب لبنان، وهو ما يعني أنّ جنبلاط استشفّ من القطريين أنّ هذه المفاوضات متعثّرة بالحدّ الأدنى، فإنّ هناك من يرى أنّ المقصود منه توجيه رسالة إلى الداخل تحديدًا، بضرورة تحصين الوحدة الوطنية.

يظهر ذلك أيضًا بإشادة جنبلاط بالجهود التي يقوم بها رئيس مجلس النواب نبيه بري، والتي وصفها بـ"المضنية والجبّارة"، علمًا أنّ مثل هذه الإشادة تبدو أبعد من واقع الصداقة القوية بين الرجلين، بل قد تحمل بين طيّاتها رسالة إلى المعارضة التي تكرّر التصويب على برّي بين الفينة والأخرى، كما فعل رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع مثلاً قبل أيام، حين وصفه بـ"شيخ المعطّلين"، في حين يبدو أنّ جنبلاط "يراهن" على بري تحديدًا في تجاوز هذه المرحلة.

ثمّة من يعتبر أنّ حديث جنبلاط عن الحراك القطري، معطوفًا على دور بري، فضلاً عن كلامه الصريح عن "التسوية"، جاء في سياق المسعى إلى "تهدئة" جبهة الجنوب، وبالتالي ضرورة الفصل بينها وبين غزة، منعًا للانزلاق في حرب خلافًا لموقف "حزب الله" تحديدًا، إلا أنّ هناك من يشدّد على أنّ حديث جنبلاط عن التسوية يسري على الملف الرئاسي أيضًا، حيث يتبنّى موقف بري تحديدًا منه، خلافًا لتموضع المعارضة المضاد.

بهذا المعنى، يشير العارفون إلى أنّ جنبلاط كان واضحًا بوقوفه خلف دعوة بري إلى الحوار والتوافق، وهو شجّع دولة قطر، كجزء من المجموعة الخماسية، على المضيّ في الجهود التي تقوم بها في هذا الصدد، علمًا أنّ إشارة "البيك" إلى ضرورة الذهاب لانتخاب رئيس، "أيًا كان"، وفق "الحوار والتسوية"، تبدو معبّرة هنا، وكأنّه يقول إنّه جاهز لتسهيل انتخاب أيّ رئيس، بمعزل عن الاسم، إذا ما كان قادرًا على الوصول إلى قصر بعبدا.

ثمّة من يرى أنّ هذه الرسالة قد تكون موجّهة إلى المعارضة تحديدًا، التي لا تزال ترفض الحوار، ومنها من "يشترط" التخلّي عن ترشيح رئيس تيار "المردة" سليمان فرنجية مثلاً للجلوس على الطاولة، وكأنّ جنبلاط يقول إنّه لن يكون ضدّ انتخاب فرنجية، إذا ما كان قادرًا على حصد الأغلبية المطلوبة، علمًا أنّ هذا الموقف ليس الأول من نوعه الذي يصدر عن "البيك"، ولو قال سابقًا إنّه "لا يلزم" به أعضاء كتلة "اللقاء الديمقراطي" الذين قد لا يتفقون معه بشأنه.

باختصار، ما يريد جنبلاط أن يقوله من الدوحة تحديدًا، هو أنّ لا حلّ للأزمة إلا وفق منطق التسوية، مهما عاند المعاندون، وكأنّه يضرب بذلك أكثر من عصفور بحجر، فيقول للمعارضة إنّه أقرب إلى موقف بري، ويقول للخماسية إنّ عليها مساعدة اللبنانيين على تغليب منطق الحوار والتفاهم، إن أرادت النجاح. لكن أبعد من ذلك، ثمّة من يرى أنّ جنبلاط يقرع جرس الإنذار، فإما نذهب إلى التسوية برجلينا، وإلا فالصيف الساخن الموعود بانتظارنا!.