منذ لحظة اندلاع المواجهة المباشرة بين إيران وإسرائيل قبل أسابيع، بدا المشهد الإقليمي وكأنه يدخل مرحلة جديدة مشبّعة بتكتيكات محسوبة تخفي خلفها حسابات أكبر بكثير من الصواريخ والطائرات.
اليوم، رواية طهران الرسمية لا تزال تُبقي الكثير من أوراقها طيّ الكتمان، لكن مصادر دبلوماسية إيرانيّة رفيعة تضع بعض النقاط فوق الحروف، كاشفة عن العمق الحقيقي للمواجهة التي خاضتها إيران، وما تحمله الأيام المقبلة من سيناريوهات.
اللحظة الأولى
من أكثر محطات الحرب دلالة، كانت لحظة انتظار إيران قبل الردّ على الاعتداء الإسرائيلي، رغم قدرتها على إطلاق الصواريخ خلال الدقائق التي تلت بدء العدوان، تؤكد المصادر، مشيرة إلى أن "الانتظار لم يكن ضعفاً، بل رسالة مدروسة رغم الضرر الذي تعرضت له الهيكلية العسكرية، فالقيادة أرادت أن تُظهر للعالم، لشعبها، وللشعوب العربية، كيف تتصرّف إسرائيل، وكيف تُمارس الاعتداءات بلا حسيب ولا رقيب، وتمسكت بحق تثبيت حقها القانوني بالرد في الأمم المتحدة، وعملاً بالقوانين، ورغم ذلك كانت الإدانات شبه محدودة للعدوان، في حين أن أول صاروخ إيراني أطلق على إسرائيل فتح أبواب الإدانات الدولية.
المناعة المستحيلة
من النقاط التي كانت مثيرة للجدل في هذه الحرب هو تواجد العملاء لإسرائيل بكثافة داخل إيران، وإنشاء مصانع مسيّرات، وتنفيذ عمليّات من الداخل بالتزامن مع الاستهداف الصاروخي الإسرائيلي، وهنا ترى المصادر أن "إيران ليست دولة صغيرة بل مساحة مترامية، مع حدود طويلة ومعقّدة مع 7 دول، وتنوع قومي وعرقي وديني يجعل البيئة الداخلية نفسها عرضة للاختراقات"، مضيفة أننا "مخروقون نعم، بحكم الجغرافيا وتعدد البيئات، لكن ذلك لم يُترجم خلال الحرب إلى تهديد جدي لكيان الدولة أو إسقاط النظام"، مشيرة إلى أن محاولات الانقلاب السياسي والأمني التي راهن عليها الأميركيون والإسرائيليون فشلت مراراً، والسبب ببساطة "أن النسيج الإيراني رغم تنوعه يحمل مناعة عميقة، وتجربة متراكمة في إدارة الأزمات".
حرب متوقعة بتقنيات غير متوقعة
ترى المصادر أن الخرق التكنولوجي الذي تعرضت له طهران لا يمكن وضعه بالكامل في إطار "ذلك الناتج عن تقصير أو تراخٍ، بل بإطار التفوق التكنولوجي الذي يتمتع به الكيان الإسرائيلي على إيران وكل دول العالم"، مشيرة إلى أن إيران لم تُفاجأ باندلاع المواجهة مع إسرائيل، بل كانت تتحسّب منذ ما قبل عملية "طوفان الأقصى" لإمكانية توسّع الصراع، وتعمل على تطوير تقنياتها العسكرية بوتيرة متسارعة، "لكن حجم الهجمات العسكرية، سواء من الداخل أو الخارج، كان أعلى من التوقع، رغم أنه ليس خارج الحسابات".
رغم ذلك تمكنت إيران من الصمود وتوجيه ضربات قاسية جداً للكيان جعلته يطلب وقف إطلاق النار، ولكن في سياق الحرب دارت تساؤلات كثيرة حول إسقاط إيران لطائرة، او أكثر، من طائرات إف-35 الإسرائيلية، وهو ما لا تؤكده المصادر الدبلوماسية ولا تنفيه، وتقول: "عدم التأكيد أو النفي هو قرار محسوب، فإذا سقطت الطائرة فعلاً، لن نُعلن ذلك الآن، لأن هذه المسألة ستكون بمثابة ورقة تفاوض كبرى تُستخدم في الوقت المناسب.
إذا، يبدو أن إيران تقيس حساباتها في توقيت كشف الإنجازات أو حتى الاعتراف بالخسائر، وهو ما ينسحب أيضاً على حجم الضربات التقنية التي تلقتها خلال الحرب، والتي ستدخل حكماً في معادلات التفاوض لاحقاً.
ذاكرة... وتراكم النفوذ
المقاربة الإيرانية للحرب ليست آنية، فهم يعتبرون أن حرب العراق وتضحياتها أسست لوصول الجمهورية الإسلامية إلى حيث هي اليوم، والضربة الإسرائيلية الأخيرة، رغم الألم والخسائر، ستؤسس بعد سنوات لمرحلة جديدة في إيران، على مستوى تطوير القدرات الدفاعية، تحصين الجبهة الداخلية، وتعزيز العلاقات مع دول الجوار العربي، وهو ما تؤكد المصادر أنه سيكون على رأس جدول أعمال القيادة الإيرانية، ومن أبرز مهامها المستقبلية.
برؤية طهران، الصراع مع إسرائيل دخل طوراً جديداً من المواجهة المباشرة، وهي لا تُنكر الثغرات، ولا الخسائر التي طالت في بعض الأحيان قيادات من المؤسسين والمعاصرين لمرحلة انتصار الثورة الإسلامية، لكنها في المقابل، لا تعترف بالانكسار وتدير معركتها بإيقاع طويل النفس.