تواجه إدارة الرئيس الأميركي باراك اوباما استحقاقات عديدة في أكثر من ساحة من ساحات الصراع في العالم تفرض عليها القيام بخطوات تراجعية من ناحية، ومحاولة الحد من حجم تراجع النفوذ الأميركي من ناحية ثانية.

ومن بين هذه الاستحقاقات المهمة، التي توضع في سلم أولويات عمل الادارة، استحقاق الانسحاب من أفغانستان، حيث بات من الواضح أن واشنطن اتخذت قرارها بسحب قواتها الموجودة هناك في العام المقبل، بعد أن باتت الحرب المستمرة منذ نحو11 عاما ترهق الميزانية الأميركية التي تعاني من العجز المتزايد، في حين لا يوجد ما يؤشر إلى أن هذه القوات قادرة على القضاء على المقاومة وإنهاء الحرب التي تستنزف أميركا ماديا وعسكرياـ وتعمق من حدة أزمتها المالية والاقتصادية البنيوية.

إلا أن واشنطن تحاول قبل اقتراب موعد الانسحاب فتح خطوط الحوار مع حركة طالبان لضمان انسحاب هادئ من جهة، وتوفير الغطاء لتوقيع معاهدة مع الحكومة الأفغانية تضمن بقاء بضعة آلاف من قواتها تحت غطاء تدريب كوادر وأجهزة الأمن الأفغانية شرط منحهم الحصانة القضائية.

وعلى الرغم من قادة طالبان رفضوا الحوار قبل انسحاب كل القوات الأجنبية من البلاد، إلا أن الحكومة الأفغانية وجهت دعوة رسمية إلى الحركة، والحزب الإسلامي للمشاركة، ترشيحا وتصويتاً، في الانتخابات الرئاسية التي ستجري في الخامس من نيسان سنة 2014، قبيل بضعة أشهر من الموعد الذي حدد لاستكمال انسحاب القوات الأطلسية المحتلة من أفغانستان.

ماذا يعني ذلك؟ وما هي دلالاته؟

من الواضح أن دعوة أطراف المقاومة للاشتراك بالانتخابات يشكل اعترافاً رسمياً بحركة طالبان، برئاسة الملا عمر، والحزب الإسلامي برئاسة قلب الدين حكمتيار، وسقوطاً مدوياً لاستراتيجية الحرب الأميركية الغربية وأهدافها، التي سعت إلى تحقيقها على مدى 11 سنة من الحرب الفاشلة، بكل المعايير والمقاييس العسكرية والسياسية.

فبعد أن كان هدف الحرب الأميركية الغربية هو القضاء على حركة طالبان، وتنظيم القاعدة، الذي يحظى بدعمها واحتضانها، والعمل على إقامة نظام موالٍ لواشنطن ينفذ إستراتيجيتها، ويجعل من أفغانستان قاعدة أميركية غربية لتعزيز وبسط نفوذ الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين في آسيا الوسطى، أصبح اليوم مطلب العواصم الغربية، ووكيلها الأفغاني كرزاي، اللهاث وراء الحوار مع طالبان، ثم دعوتها للمشاركة في الانتخابات بما يعكس اعترافاً صريحاً بها، والتخلي عن توصيف المقاومة الأفغانية بالإرهاب، واستطراداً اقراراً غربياً بعدم القدرة على تكريس نظام حميد كرزاي، والحاجة إلى منحه شرعية مفقودة، من خلال انتخابات تشارك فيها أطراف المقاومة، وتقود إلى المحافظة على بعض النفوذ الغربي في النظام الأفغاني يوفر انسحاباً هادئاً وآمناً للقوات الأطلسية، يبعد عنها تكرار مشاهد الرحيل المذل للقوات الأميركية عن فيتنام الجنوبية تحت ضربات المقاومة الفيتنامية.

ثانياً: يبدو من الواضح أن الدول الغربية قد أدركت أنه بمجرد انسحاب جيوشها من أفغانستان سيسقط النظام الموالي لها، وتعود طالبان وحلفائها إلى السيطرة على السلطة، لان نظام كرزاي سيعجز عن مقاومتها «اقتصادياً وعسكرياً» وسينهار في العاصمة كابول، عند مغادرة قوات حلف الأطلسي، التي توفر له الحماية والقدرة على الاستمرار، وفي أحسن الأحوال فان ما سيحصل هو «الفوضى والعنف».

وفي هذا السياق حذرت مجموعة الأزمات الدولية في تقرير لها (8 أكتوبر 212) من أن الحكومة الأفغانية قد تنهار بعد انسحاب قوات الحلف الأطلسي، خاصة إذا شهدت الانتخابات الرئاسية، التي ستجري في ذلك العام، عمليات تزوير.

وقال كانديس روندو المختص في الشؤون الأفغانية في المجموعة التي مقرها بروكسل «يوجد خطر حقيقي من ان ينهار النظام في كابول عند انسحاب قوات الحلف الأطلسي».

وأفاد التقرير وهو بعنوان «أفغانستان الطريق الطويل والصعب إلى الانتقال في عام 2014» ان أفغانستان تتجه نحو انتخابات مزورة أخرى بعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التي سادتها الفوضى في 2009 و2010م.

وأكد التقرير أن تكرار ما حدث في تلك الانتخابات يقوض الأمل الضئيل المتبقي لتحقيق الاستقرار في البلاد بعد ان تنتقل المسؤولية الكاملة عن الأمن من قوات الحلف الأطلسي إلى الحكومة الأفغانية.

وذكر روندو ان «الجيش والشرطة الأفغانيين غير مستعدين لعملية الانتقال وأية انتخابات فاشلة واضطرابات قد تنجم عنها قد تدفع بالبلاد إلى نقطة الانهيار». وأضاف أن حكومة الرئيس حميد كرزاي المدعومة من الغرب والبرلمان اخفقا في اتخاذ أية خطوات جديدة باتجاه الأعداد لانتخابات نزيهة.

على أن الانهيار الذي حصل في التسعينيات سيكون أسوأ هذه المرة، بعد أن أثبتت طالبان المهارات في التكتيك، وتخلصت من مسؤولي كبار من أنصار الناتو، وشنت هجمات على أهداف مهمة «أذلت أعداءها» وكان أبرزها الهجوم الذي نفذته طالبان، في الآونة الأخيرة، واستهدف أحد أكبر قواعد حلف الأطلسي في أفغانستان، وأدى إلى تدمير ست طائرات أميركية مقاتلة، في أكبر خسارة مادية يتكبدها سلاح الجو الأميركي، في هجوم واحد، منذ حرب فيتنام.

إن مثل هذه النتيجة التي تيقنت منها دوائر القرار في العواصم الغربية جاءت بعد جملة من الأخفاقات أبرزها:

1 ـ سقوط إستراتيجية ضرب الملاذات الآمنة لطالبان .

2 ـ الاخفاق في بناء دولة أفغانية يعتمد عليها حلف الأطلسي.

3 ـ العجز عن عزل طالبان، التي شهدت شعبيتها ارتفاعاً كبيراً، على اثر المذابح التي ارتكبتها القوات المحتلة، والطائرات الأميركية بدون طيار، بحق الأفغان وأدت إلى سقوط الآلاف، وإبادة قرى بأكملها.

4 ـ فشل خطة احداث شرخ داخل طالبان، بين معتدلين ومتشددين.

5 ـ تحول استمرار الحرب إلى خطر يزعزع استقرار باكستان الحليفة المهمة لأميركا في منطقة آسيا الوسطى.

6 ـ أصبح البقاء في أفغانستان يزيد من اضعاف قوة أميركا، اقتصادياً وسياسياً، بسبب الحاجة إلى الانفاق الكبير على الحرب الأطول في تاريخ الحروب الاميركية، والأكثر كلفة وارهاقاً للاقتصادي الأميركي.

لكن محاولة واشنطن وحلفائها تفادي الهزيمة، عبر انتخابات تشارك فيها أطراف المقاومة الأفغانية، يظهر أنه لا حظوظ لها، لأن مصيرها مرتبط بموافقة طالبان التي أعلنت رفض الدعوة للمشاركة فيها، لأن الأولوية، بالنسبة لها، هي «للمقاومة وتحرير أفغانستان»، وليس التوجه «لمراكز اقتراع وهمية» والمشاركة في انتخابات ستكون بمثابة تعاطف مع «الغزاة الأميركيين ودعمهم وإعطاء شرعية لاجتياحهم لأفغانستان، وتكريس واقع سياسي يقبل ويقر باستمرار الاحتلال الأجنبي».