من يزور الصين، هذه الأيام، يلاحظ التطور اللافت في كل مناحي الحياة الصناعة والزراعة، العمران، البنى التحتية الحديثة من شبكة مطارات، وطرق مريحة داخل المدن وفيما بينها، وقطارات سريعة ومترو أنفاق، فالحضارة سمة تتلمسها في كل منطقة أو شارع تسير فيه في بكين وغيرها من المدن. الحديث عن الانجازات والتقدم ليس مصطنعاً إنما هو أمر حقيقي وفعلي وواضح. بلد ينمو بسرعة وبدقة عدم التسرع. من بلد فقير إلى بلد نام يتقدم في مختلف المجالات رغم تعداد سكانه الكبير (مليار وثلاثمائة مليون نسمة) ومع ذلك تلمس التواضع والتحلي العالي بالأخلاق التي تميز سلوك وتصرف المسؤولين الذين لا يتوانون عن الاعتراف بوجود إشكالات وأخطاء وثغرات، وهم يقولون إنهم يتعلمون من التجربة ويتطورون استنادا إلى النظرية والتطبيق، ويعملون على ردم الهوة القائمة بين المدن والأرياف من زوايا التنمية ومستوى المعيشة، ويقولون بوضوح أن في الصين لا يزال هناك وجهان، وجه غني يميز الحياة في المدن الكبرى، ووجه فقير ما زال قائماً في الأرياف، وأنهم بدأوا بتنفيذ الخطط الموضوعة لتقليص هذه الفجوة، ووضع حد لهذا التفاوت.

ورغم أن الصين احتلت المرتبة الثانية في العالم من حيث حجم الاقتصاد الكلي إلا أنها ما زالت دولة نامية، وبالاضافة إلى عدم التوازن التنموي في الصين، أي ليس جميع المدن بمثابة مدينة بكين، أو مدينة شنغهاي من حيث حجم الاقتصاد، كذلك يوجد عدم توازن تنموي بين الريف والحضر، وهذا ما يسعى الحزب الشيوعي إلى معالجته من خلال العمل على بلوغ مجتمع رغيد الحياة في عام 2020، وأن الخطط لتحقيق ذلك سوف تؤدي إلى مضاعفة متوسط الدخل عما هو عليه الآن من 5000 ـ 6000 دولار إلى نحو 10,000 ـ 12,000 دولار سنوياً. على أن هذه الخطط سوف تقود الصين في عام 2049، عام تأسيس جمهورية الصين الشعبية، إلى بلوغ مجتمع متوسط التطور.

وفي هذا السياق وضع الحزب في مؤتمره الثامن عشر الأخير ما أطلق عليه «التخطيط التنموي الجديد» أي تحقيق هدفي المئوية.

الهدف الأول: عند الذكرى المئوية لتأسيس الحزب عام 2020 تحقيق ضعف الناتج الإجمالي الفردي عما هو عليه الآن.

الهدف الثاني: عند الذكرى المئوية لتأسيس جمهورية الصين، أي عام 2049 إنجاز الصين دولة ديمقراطية مزدهرة وحديثة.

على أن أفكار قائد الثورة ماوتسي تونغ ونظرياته، ونظرية الاصلاح والانفتاح لـ دينغ يجري تدريسها كلها في الجامعات باعتبارها هي المرتكز لبناء الصين، غير أن الصينيين يتحسبون للتحديات الخارجية والأخطار التي تواجههم من قبل الولايات المتحدة والدول الغربية، لكنهم ليسوا قلقين، فهم مسكونون بقدرتهم على مواجهتها، خاصة وان الدول الغربية هي من يحتاج إلى الصين، إن كان من زاوية سوقها الاستهلاكية الواسعة، أو من زاوية إمكانياتها وقدراتها المالية والاقتصادية الكبيرة التي جعلت الصين الدائن رقم واحد للولايات المتحدة الاميركية، مما يظهر حجم التشابك القائم في العلاقات، وفي نفس الوقت حجم التنافس بين نظامين مختلفين اقتصاديا وسياسياً، نظام صيني اشتراكي يتقدم، ونظام غربي رأسمالي يتراجع.

التجربة الاشتراكية ذات الخصائص الصينية

يؤكد المسؤولون في الحزب الشيوعي الصيني نجاح الحزب في تطبيق النموذج الاشتراكي ذي الخصائص الصينية، حيث تمكن من ربط المبادئ الاشتراكية مع واقع الصين، وانه نجح في إيجاد الطريق الخاص بالصين مستفيداً من خبرات الحزب الناجحة، والدروس الفاشلة، ومن هذه الدروس الفاشلة استنساخ التجارب الاخرى.

وهم بذلك يمارسون نقداً صارماً للمرحلة التي جرى فيها استنساخ الحزب للتجربة الروسية، وأدت إلى هروب عدد من أعضائه، وبسبب ذلك حصلت بعض الأخطاء في التنمية والبناء. أما اليوم فإن الحزب يتخذ قراراته انطلاقاً من واقع الصين الخاص ولذلك يمكن أن ينجح في النهاية.

وفي مجال الحديث عن اخطاء النموذج السوفياتي في تطبيق النموذج الاشتراكي لناحية ملكية وسائل الإنتاج وتوزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية، وتطبيق مبدأ الحوافز.

يبادر المسؤولون في الحزب الشيوعي الصيني إلى القول: إن فشل تجربة الاتحاد السوفياتي يتعلق بفشل تطبيق النموذج الاشتراكي، وأن تفكيك الاتحاد السوفياتي يتعلق بأمور أخرى أيضا، مثلاً: غياب حزب قوي ثابت، وعدم التمسك بالاتجاه التنموي، وعدم تطبيق الاصلاحات، ولقد درس الحزب الشيوعي الصيني بجدية الدروس الفاشلة للاتحاد السوفياتي، ولاحظ العوامل المهمة جداً، في عدم تطبيق مبادئ الاشتراكية في توزيع الثروة وتحقيق العدالة الاجتماعية.

ولذلك يبذل الحزب جهوداً متضافرة لضمان تقاسم الثروات التنموية بين صفوف الشعب بعدالة.

الاشتراكية واقتصاد السوق:

منذ بداية الاصلاح والانفتاح في الصين تثار تساؤلات داخل الحزب الشيوعي حول كيفية تطبيق الاشتراكية ونظام اقتصاد السوق، والبعض اعتقد أن الاشتراكية لا تستطيع القيام إلا بالاقتصاد المخطط، وأن اقتصاد السوق يرجع الى الرأسمالية، وهم يفكرون أن الاتحاد السوفياتي هو الذي نفذ الاقتصاد المخطط، ويرون أن الماركسية اللينينية لم تذكر أن الاشتراكية يمكنها القيام باقتصاد السوق، وقد أثرت هذه الفكرة على المضي قدما في الاصلاح والانفتاح، ولذلك يعتبر الحزب الشيوعي الصيني أنه في قيادة عملية تحقيق التنمية اعتماداً على الشعب، ومن اجل الشعب لا بد من تقاسم نتائج التنمية في صفوف الشعب، أما بالنسبة إلى كيفية توزيع النتائج فان الحزب يهتم باستكمال نظام التوزيع، منذ الاصلاح والانفتاح قبل 30 سنة، حسب مدى العمل، وهو نقطة جوهرية، مع مراعاة أساليب أخرى في ذلك، لان الناس يمتلكون وسائل إنتاجية، البعض يمتلكون من خلال عملهم، والبعض من خلال استثماراتهم، والآن الحزب يعتبر أنه لم يحقق بعد هدف العدالة من خلال نظام توزيع الدخل، لانه يوجد فجوة ناتجة عن عدم التوازن بين الريف والحضر، لذلك يعمل الحزب الشيوعي على تحقيق العدالة في التوزيع، ويستخدم لتحقيق ذلك وسائل متعددة من خلال الرسوم والضرائب ومساعدة المحتاجين ويؤكد المسؤولون في الحزب الشيوعي أن الاشتراكية يمكنها القيام باقتصاد السوق، وهو أمر ليس حكراً على الدول الرأسمالية. هناك اقتصاد مخطط أيضا في الدول الرأسمالية، ويرون أن السوق وسيلة لتوزيع الموارد .

ففي ظل النظام الاشتراكي يمكن تفعيل اقتصاد السوق في توزيع الموارد، لان اقتصاد السوق في الصين يسمى اقتصاد السوق ذات الخصائص الصينية، وهذا النظام ينجم عن النظام السياسي الصيني ، والدور القيادي الذي يلعبه اقتصاد السوق في الصين ما زال تحت تأثير النظام الاشتراكي، ويجري توزيع الدخل والموارد في إطار النظام الاشتراكي. ولهذا هناك اختلافات بين اقتصاد السوق في الصين، وبين اقتصاد السوق الحر الغربي.

من الواضح ان التطور الذي حصل في الصين، على مدى العقود الثلاثة الماضية، وادى الى بناء البنية الأساسية الصناعية والزراعية والخدماتية، سوف يجعل تحقيق قفزات نوعية للارتقاء في مستوى هذا التطور، في السنوات القادمة، اسرع من المرحلة الماضية، ولذلك يمكن ملاحظة الثقة العالية لدى المسؤولين الصينيين في تنفيذ خططهم المئوية على هذا الصعيد، الأمر الذي يجعل الصين تزيد من منسوب حضورها الدولي كلاعب اساسي، ولذلك نلمس ان هذا الحضور يتقدم ويزداد بشكل مطرد مع تقدم الصين الاقتصادي والاجتماعي وزيادة حجم امكانياتها التي تؤهلها للعب هذا الدور، من دون ان ينعكس سلبا على مسيرة تقدمها وتطورها، التي تسير بخطى ثابتة وتصميم واصرار تتلمسه في كل مناحي الحياة، ولدى المسؤولين في الحزب والدولة، ولدى افراد الشعب حيث تجد الانتظام والانضباط والتزام الدقة في المواعيد والمثابرة على العمل من القمة الى القاعدة، كأن المجتمع كله خلية نحل.