تحول عيد العمال العالمي، هذا العام، في معظم دول العالم إلى محطة نضالية للدفاع عن مكتسبات الطبقة العاملة، التي تواجه، منذ سنوات، هجوماً غير مسبوق من قبل الرأسمالية النيوليبرالية المتوحشة لسلبها الانجازات والحقوق التي حققتها تضحياتها على مدى قرون من الصراع بين العمال من جهة، وأرباب العمل الرأسماليين من جهة ثانية.

وكان لافتاً أن الدول الرأسمالية الغربية قد شهدت تظاهرات حاشدة شارك فيها مئات الآلاف، وحصلت خلالها مصادمات بين المتظاهرين ورجال الأمن، ما عكس ازدياد حدة الأزمة الاجتماعية المترافقة مع تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية التي تعصف بالدول الغربية، منذ انفجار الأزمة في الولايات المتحدة الاميركية عام 2008، وتفجر أزمات الديون السيادية في اليونان واسبانيا وايطاليا وغيرها من دول الاتحاد الأوروبي.

وتجلت الأزمة في الركود الاقتصادي المستمر، وعدم نجاح الإجراءات الاقتصادية والمالية للخروج منه وإعادة تنشيط عجلة الانتاج، وكذلك في الديون المرتفعة التي فاقمت العجز في الموازنات، وأرهقت فوائدها الاقتصاد والمجتمع بسبب الإقدام على اتخاذ إجراءات تقشفية لتوفير الأموال لسداد الديون خوفاً من تواتر صدور قرارات المؤسسات العالمية للتصنيف الائتماني (موديز) بخفض مستوى التصنيف لبعض الدول، وبالتالي القلق من إشهار إفلاس هذه الدول. وهكذا تحولت جهود الدول الغربية لأجل جمع الأموال لدعم الدول التي باتت على حافة الإفلاس، بدلاً من استخدام هذه الأموال لتنشيط الحركة الاقتصادية، في حين أدى استمرار الركود الاقتصادي، إلى فقدان ملايين العمال لفرص عملهم، وبالتالي ارتفاع نسب البطالة إلى مستويات غير مسبوقة، فمثلاً باتت نسب البطالة في اليونان 27,2 %، وفي اسبانيا 27,6 %، وفي ايطاليا 11,5 %، وفي الولايات المتحدة الاميركية 9 % .

ومما زاد الطين بلة بالنسبة للعمال إقدام الحكومات الغربية على اتحاذ إجراءات تقشفية زادت من حدة الركود الاقتصادي والأزمة الاجتماعية، في وقت واصلت فيه هذه الحكومات سياسة مساندة ودعم ارباب العمل في مطالبتهم إعادة النظر في قوانين العمل بما يسمح لهم بفرض شروط جديدة في العمل تنقض من خلالها على مكتسبات العمال، وتجعلهم تحت رحمة فقدان عملهم، أو القبول بشروط أرباب العمل الجديدة التي فتحت الباب واسعاً أمام تقليص مكاسب الطبقة العاملة والتقديمات الاجتماعية التي تنعم بها، لا سيما الضمان الاجتماعي الصحي، وضمان الشيخوخة، ومستوى الأجر، ومدة ساعات العمل، وديمومة العمل، الأمر الذي اعتبر بمثابة جرس إنذار خطير دفع النقابات العمالية إلى الاستنفار والتحرك للدفاع عن هذه المكتسبات والتصدي لهجوم أرباب العمل عليها.

ولذلك كان من الطبيعي أن يتحول عيد العمال العالمي إلى مناسبة للاحتجاج على سياسات الرأسمالية الليبرالية التي تستهدف حل ازماتها على حساب مصالح العمال خاصة في الدول الأوروبية الرأسمالية التي كانت فيها الطبقة العاملة لعقود ماضية تعيش في ظل ظروف اجتماعية مريحة، نتيجة الامتيازات التي حصلت عليها، بفعل عاملين:

الأول : النضالات العمالية التي حققت العديد من المطالب والانجازات، وفي مقدمها الضمان الصحي، وضمان الشيخوخة، وتحديد ساعات العمل بثماني، وتحسين مستوى الأجر، والإجازات الأسبوعية والسنوية.

الثاني: الازدهار التي نعمت به الرأسمالية الغربية نتيجة سيطرة سلعها على أسواق دول العالم الثالث، ونهبها المنظم لثروات هذه الدول، الأمر الذي مكنها من توفير الامتيازات للطبقة العاملة، وتلطيف حدة التفاوت الطبقي، وبالتالي تهدئة الصراع بين الطبقة العاملة والرأسمالية .

أما اليوم، فبعد الأزمة الاقتصادية البنيوية التي ضربت مراكز الرأسمالية في أميركا ودول أوروبا، على خلفية ظهور تحولات إستراتيجية بنيوية في النظام الاقتصادي الدولي تمثلت في انتقال مركز القرار الاقتصادي من الغرب إلى الشرق، وبالتالي تقلص القوة الاقتصادية للدول الرأسمالية الغربية، واستحالة عودتها إلى ما كانت عليه من قوة في العقود الماضية، فإن العامل، الذي وفر الازدهار لهذه الرأسمالية وأمن لها إمكانية تقديم امتيازات للطبقة العاملة وشراء صمتها، وبالتالي توفير مستوى معيشة مرتفع واستقرار اجتماعي، قد تلاشى وأصبح من الماضي، لكن وبدلاً من لجوء الحكومات الغربية إلى إعادة نظر جذرية في سياساتها الاقتصادية، والتوقف عن المراهنة على العودة إلى سياسة الهيمنة على الأسواق، ومقاومة التحولات الاقتصادية الحاصلة على المستوى الدولي، والمتمثلة بصعود اقتصادات قوية مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل وجنوب أفريقيا، وتحرر الكثير من دول العالم من وطأة هيمنة الرأسمالية الغربية، وبالتالي التسليم بحقيقة عدم القدرة على الاحتفاظ بمستوى معيشة مرتفع في بلدانها يتجاوز قدراتها، والقبول بمستوى معيشة يتناسب مع واقعها الاقتصادي الجديد، اقدمت هذه الحكومات الغربية على اعتماد سياسة تقود إلى مفاقمة الأزمة الاقتصادية وتأجيج الصراع الطبقي في بلدانها من ناحية، وزيادة منسوب التوتر في العلاقات الدولية من ناحية ثانية، وتمثلت هذه السياسة بالآتي:

أولاً: معالجة العجز في الموازنات والديون عبر سياسة عصر النفقات وتقليص التقديمات الاجتماعية، الأمر الذي أدى إلى مزيد من التراجع في القدرة الشرائية وبالتالي زيادة الركود الاقتصادي الذي يقود بدوره إلى زيادة العجز في الموازنات، وبالتالي مفاقمة الأزمة، واستطراداً زيادة في حدة التفاوت الاجتماعي واحتدام الصراع الطبقي، وهو ما عبرت عنه التظاهرات العمالية في عيد العمال، وحذر من انعكاساته السلبية تقرير البنك الدولي.

ثانياً: العودة إلى إحياء السياسات الاستعمارية القديمة لأجل فرض السيطرة المباشرة على ثروات الشعوب واستغلالها وتأمين الأموال لمعالجة أزماتها المالية على حساب هذه الشعوب، وهو ما تمثل في شن الحروب الغربية على أفغانستان، والعراق واليوم في مالي، حيث الثروات النفطية الكبيرة، إلا أن مثل هذه السياسات أسفرت عن استنزاف قدرات الدول الغربية بسبب المقاومة التي واجهتها وأجبرتها على الانسحاب من العراق، في حين هي الآن في طريقها للخروج من أفغانستان، وبالتالي مفاقمة أزماتها بدل حلها.

انطلاقاً مما تقدم فإن الدول الغربية الرأسمالية إذا لم تقرر الكف عن هذه السياسات الداخلية والخارجية، وتسلم بالحقائق الاقتصادية العالمية الجديدة، فإنها ستشهد تفاقماً في أزماتها الاقتصادية والاجتماعية وبالتالي تصاعداً في حدة الصراع الطبقي، خاصة وأن الطبقة العاملة في الغرب تملك نقابات قوية مستقلة ليس من السهل تطويعها لصالح أرباب العمل على حساب مصالح العمال.