يعيش الانسان المسيحي العربي اليوم، في ظل الحراك الذي تشهده الساحات والميادين في بعض البلدان العربية، أزمة وجدانية، مع نفسه أولاً، ومع محيطه لاحقاً، بسبب الشعور الذي يتنامى عنده، بأنه أقلّيةٌ غيرُ ذاتِ وزن عددياً في منطق التكاثر الديموغرافي، الذي يجعل منه مشروع رقم فقط.

فمن حقّ المسيحي أن يسأل ويتساءل عن غياب مفهوم (القومية العربية) و تكفير(العلمنة)، وان يستهجن بقوّة، الصمت المسلم، الذي لم ينتصر للقومية العربية، ولم يأسف لإغتيالها، هذه القومية التي لم تَجد مَن يبكي عليها، حتى الآن.

فهل كانت (العروبة) كذبة سياسية؟ وهل نجحت الاسلامية السياسية، بأن تجد لها المكان الرحب، على حساب التلاقيات الجامعة بين أبناء البلد الواحد؟

وفي تقويمنا لواقع الإتنيات والقوميات، نلاحظ غياب الاحساس بالمواطنة، كجامع توحيدي وإقتناعي بين المواطنين. وهذا مسار قلق إضافي لا يمكن إخفاؤه أو تجاهله. وقياساً على النمط اللبناني كنموذج لتلاقي الأديان والحضارات، وتعدّد الطوائف في تركيبة الحكم، يجب الإقرار بأن هذه الجماعات الدينية، بما تحمله من قيم وتعاليم، هي بجوهرها (نكهة لبنان)، وان الإستثناءات السلبية التي نعيشها ليست سوى خلافات عصبية منظَمة، تقودها وتستثمرها جهات خارجية، تبعاً لمصالحها وسياساتها. وفي هذا الوضع، من حق أي مسيحي وأي مسلم أن يخاف من ذهنية الجاهلية الجديدة، وتطبيقاتها وفتاويها وتكفيراتها القاتلة، بعيداً عن الرحمة والتسامح والإلتزام بالتعاليم والروحانيات.

***********

ولعل إحدى مشاكل مذاهب لبنان، هي ان كل مذهب وجماعة، يعرف تماماً انه أقلية، ولكنه يصرّ على التكابر والاستعلاء الإستقواء، من دون تبرير ومن دون حجّة، وتعتبر نفسها اكثرية مطلقة.

اليوم، أنا المسيحي اللبناني، خائف من الليل التكفيري الذي يتسلّل السلفيون في ظلمته، ليبدّلوا من وجهة تطوّر المجتمعات ونموّها، وليقولوا كلاماً حاداً، فيه خروج على نمطيات الإسلام والعرب. والسؤال المحوري في هذا الموضوع، يتركّز على دور المرجعيّة الاسلامية التي يجب ان تنتفض وتأخذ زمام الأمور بمسؤولية وتقول جهاراً "الأمر لي" ، كي لا يبقى الإختباء وراء الشعور الديني لبعض المتأسلمين هو المنطق الظاهر والسائد.

نعم من حقّ المسيحيين في الشرق الأوسط، ان ينشغلوا على مستقبلهم، في ظلّ إنهيار الدول، واستبدال سلطة بسلطة أخرى، وفي كل مرحلة، يكونون هم الذين يدفعون الثمن، لأنهم اختاروا الإنتصار للدولة، ككيان مجتمعي وسياسي، وبما تشكّله الدساتير من حمايات قانونية مفترضة للاقليات.

ان الخلافات الموظّفة تولّد الفتن المذهبية التي تعمل جهات خارجية لتوظيفها واستثمارها تحت مسميات مستحدثة، مثل (الفتنة السياسية) و(الفتنة الدستورية) و( فتنة المرجعيات)... وكل هذه المؤشرات السلبية تدلّ الى تغيير واضح في سلوكيات التفكير السياسي، الذي يتعامل مع المعطى الدستوري، من حيث انه يمكن ان يكون (اجتهاد المصلحة الخاصة) للجماعة، وكل ذلك على حساب الكيانية العامة للدولة، التي هي النظام الضامن للحريات، بالتوازي مع ما تعنيه الكيانية السياسية، من التزام وانتماء.

ولأنه لا يمكن طمأنة المسيحي العربي على مستقبل وجوده خارج منطق الدولة، فمن حق المسيحيين ان تتزايد انشغالاتهم على المستقبل، إن لم تجد صرختهم صدى في وجدان الكيانية العربية، التي غاب عنها مفهوم (القومية العربية) لحساب الحركات الدينية.

* الدكتور ​جورج كلاس​ هو عميد كلية الاعلام والتوثيق منذ العام 2009، وكان قد شغل منصب مدير الفرع الثاني لكلية الاعلام والتوثيق بين العامين 1999 و2005، ومدير عام الأبحاث والدراسات في مجلس النواب بين العامين 2005 و2006. من مؤلفاته: "الصحافة الفكرية" عن دار النهار (1994)، "الصحافة السنوية: نشأتها وتطورها" عن دار الجيل (1996)، "الدليل الى الاعلام الثقافي والفني" عن الجامعة اللبنانية (2005)، "الاعلام الديني" عن الجامعة اللبنانية (2012) وغيرها.