الحرب مفتوحة بين تيار المستقبل ودار الفتوى. حرب يحار كثيرون في تفسير الأسباب التي أدّت اليها، بعدما مثل مفتي الجمهورية لسنوات الغطاء الديني للتيار الأزرق

«يحذّر تيار المستقبل من خطورة استهداف دار الفتوى لما تمثل من مقام روحي ودور وطني تاريخي. ويؤكّد التيار دعمه الكامل لمفتي الجمهورية الشيخ محمد رشيد قباني، وينبّه من أن من يحاول التطاول أو استهداف الدار والمفتي انما يتطاول على اللبنانيين عموماً والمسلمين خصوصاً. إن في استهدافهما محاولة اغتيال سياسي مرفوضة وسيتصدى لها (التيار) بكل حزم وعزم»، داعياً إلى الخروج من «المراهقة السياسية، إذ إن المفتي منارة من منارات العلم ومرجعيّة وطنية بامتياز»!

هذا البيان أصدره التيار الأزرق يوم 3/12/2009، رداً على ما نشرته «الأخبار» يومها عما بات يعرف في ما بعد بـ«الملف المالي لدار الفتوى». حينها كان انتقاد المفتي أو أحد المقربين منه «اغتيالاً سياسياً». ويومئذ، كان قباني «منارة العلم» و«المرجعية الوطنية»، لانه كان في الخندق نفسه مع تيار المستقبل. «سبع سنوات سمان»، بين 2003 و2010، كان خلالها قباني من أشد المدافعين عن التيار، خائضاً معاركه ــــ لا بل متقدماً طلائعها ــــ ومؤمّناً له الغطاء الديني. وبعد عدوان تموز، وإبان الاعتصام الشهير للمعارضة حول السرايا الحكومية، لم يتأخر في نصرة رئيس الحكومة «المحاصر» فؤاد السنيورة، معلناً أن السرايا التي يسكنها رئيس الحكومة السني «خط أحمر». في السرايا، أمّ قباني السنيورة في أكثر من صلاة، وعقد قران نجله، ووفّر للرجل الذي كان نصف اللبنانيين يتظاهرون لاقالته كل وسائل الدعم. ووصلت الأمور الى حد مغامرة المفتي بالموقع الوسطي لدار الفتوى، إبان أحداث أيار 2008، عندما خرج ليعلن ان «المسلمين السنّة في لبنان ضاقوا ذرعاً بالتجاوزات والانتهاكات، واللبنانيين جميعاً لم يعودوا قادرين على تحمّل المزيد من المغامرات السياسية». في تلك الايام، صعّد قباني موقفه ضد حزب الله متجاوزاً الخطوط الحمر التي كان السنيورة نفسه يحاذر تجاوزها. فكان المفتي اول من وصف ما جرى في السابع من ايار بـ«احتلال بيروت».

«دارت الايام» بين المفتي والمستقبل. لم يعد التهجّم على المفتي «مراهقة سياسية»، بل أصبح دليل «نضج»، وبات عزل قبّاني من منصبه من «أوجب الواجبات» بالنسبة إلى السنيورة. فما الذي حصل بين الرجلين، وأوصل الامور الى ما وصلت اليه؟

تجيب مصادر في دار الافتاء بأن «الاشكال الرئيسي هو في سعي كتلة المستقبل إلى تعديل المرسوم رقم 18 في المجلس النيابي». وتوضح ان «مشروع التعديل كان قد طرح في السابق على المفتي حسن خالد الذي كان قد رفضه بدوره». التعديلات التي اقترحها السنيورة على المرسوم رقم 18، في حال إقرارها، ستعني ان أي مفتٍ في المستقبل لن يكون قادراً على ادارة شؤون الطائفة من دون العودة الى المجلس الشرعي الذي يسيطر عليه تيار المستقبل. ويقول مقربون من المفتي ان السنيورة «منذ ترؤسه الحكومة عام 2005 بدأ تنفيذ خطته بإقرار تعديل المرسوم». يضيف هؤلاء انه «في آخر لقاء بين السنيورة والمفتي في 2009، فاوض السنيورة على عدم اقرار مرسوم رقم 18 اذا سمح قباني له بالتشاور معه في سياسة دار الفتوى وهو ما رفضه المفتي». وينقل من حضر تلك الجلسة ان السنيورة قال لقباني: «عملت فينا متل ما عمل (المفتي الراحل) حسن خالد، الذي رفض التعديلات نفسها». وتعزو مصادر دار الافتاء اهتمام السنيورة بإقرار التعديلات الى «رغبته بالسيطرة على الوقف الاسلامي. ولاية المفتي ستنتهي بعد عام، لكن المخالفات التي ارتكبوها في حق الوقف الاسلامي ستلاحقهم، وخصوصاً ما فعلته شركة سوليدير في بيروت».

لكن ألم يكن باستطاعة قباني ان «يبيع» السنيورة التعديلات ويبقى «منارة من منارات العلم ومرجعيّة وطنية بامتياز» وهو الذي دافع عن رئيس الحكومة السابق وتيار المستقبل بشراسة؟ يجيب مقربون من قباني: «عندما دافع المفتي عن السنيورة كان سماحته مقتنعاً بما يفعله، لكن عندما بدأ السنيورة بالتدخل في تفاصيل شؤون دار الفتوى افترق الطرفان». وأضاف هؤلاء: «لا يمكن السماح لعلمانيين بالتحكم في علماء الدين، لذلك وقف المفتي في وجه تعديلات السنيورة. وسماحته لا يمكنه القبول بمجيء مفت ضعيف من بعده، تتحكم فيه الطبقة السياسية كيفما تريد».

القطيعة التامة وقعت بين الطرفين عند تكليف رئيس حكومة تصريف الاعمال نجيب ميقاتي. يومها طلب تيار المستقبل من قباني رفع الغطاء الديني عن ميقاتي، وهو ما رفضه المفتي، كما دان قباني محاولة انصار تيار المستقبل اقتحام مبنى السرايا الحكومية أثناء تشييع اللواء وسام الحسن، لكن بما انه ما من صداقات دائمة أو عداوات دائمة في السياسة، نسي ميقاتي خلافه مع السنيورة وتحالف معه لعزل قباني. مقربون من المفتي لا يملكون تفسيراً لمواقف رئيس حكومة تصريف الأعمال، لكنهم يقولون ان «السنيورة يمسك ميقاتي من اليد التي توجعه، لذلك تبنى ميقاتي خطة السنيورة رغم انه يعرف انها ظالمة».

من جهته، يقول عضو المجلس الشرعي الممدد لنفسه بسام برغوث إن سبب الخلاف الرئيس بين تيار المستقبل والمفتي قباني هو «الملف المالي، ولأن المفتي لم يسر بالاصلاحات التي طرحت»، لكن ذاكرة برغوث لم تسعفه، اذ بعد نشر الملف المالي لدار الفتوى، عجّت دار المفتي بالوفود المستقبلية للقائه. يومها كان ما يتعرض له قباني «خطة تستهدف المرجعيات الدينية لتشويه دورها الديني والوطني». وكان من يتطاول على «المفتي انما يتطاول على المسلمين وكل اللبنانيين». اما اليوم، فذلك «ابغض الحلال بين المستقبل والمفتي»، كما يقول برغوث. اما زميله في المجلس محمد فواز، فيعزو الاشكال بين اعضاء المجلس والمفتي الى «استفراد سماحته في اتخاذ القرارات والشخصنة في إدارة ملفات دار الفتوى». ويؤكد فواز، كما زميله برغوث، ان «الاشكال ليس بين تيار المستقبل والمفتي، بل بين المجلس الشرعي الذي يريد الاصلاح في الدار والمفتي»، مؤكّداً أن «أعضاء المجلس ليسوا منتسبين إلى تيار المستقبل كما يشاع»!