وسط ضجيج الفوضى الأميركية الهدامة، التي تضرب المجتمعات العربية وتدخلها في صراعات داخلية تستنزفها وتفتت وحدتها وتشغلها عن قضيتها المركزية في فلسطين، تسير المفاوضات بين السلطة الفلسطينية والحكومة الإسرائيلية بصمت ينذر بتمرير صفقة اتفاق اذعان جديد عبارة عن نسخة جديدة مكررة عن اتفاق أوسلو، يحمل صفة المرحلية، بما يوفر الغطاء لإسرائيل كي تواصل سياساتها الاستيطانية التهويدية فيما تبقى من مناطق حيوية إستراتيجية في الضفة الغربية، على غرار ما فعلت طوال عشرين عاماً من عمر اتفاق أوسلو الذي شكل المظلة لإخماد الانتفاضة والمقاومة، وتمكين الحكومات الصهيونية المتعاقبة من العمل بهدوء للاستيلاء على الأرض الفلسطينية واستقدام مئات آلاف المستوطنين وتوطينهم في مستويات جديدة بنيت خصيصاً لهم في القدس وأماكن مختلفة من الضفة. لكن ما هي المؤشرات التي تدلل على احتمال توقيع اتفاق مرحلي جديد؟. ما هو المقابل الذي ستقدمه الحكومة الإسرائيلية للسلطة الفلسطينية لتقبل بتكرار فخ أوسلو جديد يعطي إسرائيل المزيد من الوقت لاستكمال فرض وقائعها الاستيطانية لتكون هي الأساس الذي يبنى عليه في المستقبل الاتفاق النهائي لتصفية القضية الفلسطينية ؟. وما هي الوقائع التي تؤكد هذا المخطط الإسرائيلي على الأرض؟ . وأخيراً ما هي الخلاصات التي يؤكدها مسار التفاوض منذ أوسلو وحتى اليوم ؟. أولاً: تتوارد المعلومات عن مجريات المفاوضات التي تتم بسرية على غرار المفاوضات التي أنتجت اتفاق أوسلو، والتي تتحدث عن الاتجاه إلى التوصل، إما إلى اتفاق نهائي على كل قضايا الصراع، أو إلى اتفاق مرحلي جديد يعتبر أوسلو رقم اثنين من حيث طبيعته وأهدافه المرادة منه إسرائيلياً وأميركياً . وهذا ما أشارت إليه تصريحات مسؤولين إسرائيليين، ووسائل الإعلام الصهيونية وأهمها: 1 ـ تصريح وزير العلوم والتكنولوجيا الإسرائيلي يعقوب بيري بأن اجواء المفاوضات جيدة وبناءة، وأنها قد تؤدي إلى تفاهمات، وربما إلى تسوية سياسية تاريخية. 2 ـ إعلان المفاوض الإسرائيلي السابق جلعاد شير أنه من غير المحتمل اليوم التوصل إلى اتفاق نهائي، لكن بالإمكان جسر الفجوة بين الجانبين. 3 ـ تقديم رشوة اقتصادية للسلطة الفلسطينية، عبارة عن رزمة مشاريع واستثمارات في الضفة تستهدف تعزيز وضع السلطة، لتمكينها من الاستجابة للشروط الإسرائيلية، وتقديم التنازلات الجديدة المطلوبة منها، وهو الهدف الذي تحدث عنه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو بقوله « إن السلام الاقتصادي يجب أن يكون مرحلة أولية وحيوية في التسوية الدائمة بين إسرائيل والفلسطينيين» ( راجع صحيفة يديعوت احرونوت). 4 ـ تركيز الصحف الإسرائيلية على سعي إسرائيل للتوصل إلى اتفاق مرحلي جديد. ثانياً: مخطط تغيير الواقع الديمغرافي في الضفة الغربية والقدس: انطلاقاً مما تقدم آنفا، يبدو من الواضح أن الخطة الصهيونية تستهدف مواصلة العمل على خطين: ـ خط المحافظة على استمرار المفاوضات، والتوصل إلى اتفاق، أو تفاهم مرحلي جديد يعطي إشارات خادعة على إمكانية إقامة دولة فلسطينية فعلية، لكنه في جوهره ومضمونه هو نسخة جديدة من اتفاق أوسلو، الذي يبقي كل قضايا الوضع النهائي غير محسومة. ـ وخط زيادة وتيرة الاستيطان وجلب المزيد من المستوطنين الصهاينة وتوطينهم في الضفة الغربية، وتحديداً في المناطق التي قررت إسرائيل إبقاءها تحت سيادتها في أي اتفاق نهائي يتم التوصل إليه في المستقبل، والذي تريده أن ينص على شطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وديارهم التي احتلت عام 1948، وإبقاء القدس عاصمة موحدة بقسميها الغربي والشرقي للدولة اليهودية المنتظر إعلانها، وكذلك الإبقاء على المستوطنات في المناطق الاستراتيجية في الضفة لا سيما في غور الأردن تحت السيطرة الإسرائيلية. وفي هذا السياق كشف تقرير فلسطيني عن وقائع خطيرة حصلت منذ توقيع أوسلو، أبرزها: ـ زيادة أعداد المستوطنين في الضفة من 160 ألف مستوطن، لحظة توقيع اتفاق أوسلو، إلى 650 ألفا حالياً. ـ مصادرة الحكومات الإسرائيلية اكثر من 61% من مناطق المنطقة «سي» وفق أوسلو، بعد بناء جدار الفصل العنصري والاستيلاء على 85% من مصادر المياه، والآن يجرى العمل على بناء شبكات للطرق الالتفافية في شمال الضفة تربط المستوطنات الداخلية مع مستوطنات الضفة وصولا إلى البحر الميت . وإذا ما انطلقنا من هذه الوقائع الخطيرة، يمكن عندها أن نتوقع ماذا سيكون عليه الوضع في السنوات المقبلة في ظل استمرار هذه السياسة الإسرائيلية ومواصلة قيادة السلطة نهج التفاوض للمحافظة على امتيازاتها التي بات التمسك بها أهم من القضية نفسها. ثالثاً: الخلاصات: في ضوء تجربة التفاوض، وما آلت إليه حتى الآن، يمكن تسجيل الخلاصات التالية : الخلاصة الأولى: أثبتت المفاوضات بعد عشرين عاماً على بدئها أنها كانت مجرد ملهاة، ومفاوضات من اجل المفاوضات، لم ترد منها إسرائيل إلا غطاء لمواصلة سياساتها الاستيطانية التوسعية في الأرض الفلسطينية، وصولا إلى تهويد معظم فلسطين وإعلان الدولة اليهودية عليها، بما يؤدي الى انكار أي حق للشعب العربي الفلسطيني في أرضه. الخلاصة الثانية: ان السلطة الفلسطينية كانت منذ اليوم الأول لولادتها كارثة على الشعب الفلسطيني وقضيته، فهي عدا عن دورها في توفير الأمن والاستقرار للاحتلال، وقمع المقاومة واعتقال كوادرها، وفرت على الاحتلال تحمل اكلاف وأعباء احتلاله، حتى بات يوصف بأنه ارخص احتلال في التاريخ، ولهذا أصبح استمرار هذه السلطة مصلحة إسرائيلية طالما أنها تقوم بهذه الوظائف التي تصب في خدمة إسرائيل. الخلاصة الثالثة: ان المصلحة الوطنية الفلسطينية باتت تستدعي المسارعة إلى حل السلطة الفلسطينية ووقف المفاوضات لحرمان العدو الصهيوني من أي غطاء وعدم تحمل اكلاف احتلاله، والعودة إلى خيار المقاومة في مواجهة الاحتلال، وهذا ما أشارت إليه العمليات الأخيرة في الضفة التي أدت الى مقتل جنديين إسرائيليين. الخلاصة الرابعة : إن اتفاق أوسلو كان فخاً نصبته إسرائيل وأميركا واستدرجت إليه قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، وبات الاستمرار بهذا الاتفاق، أو الموافقة على اتفاق جديد مماثل له، بمثابة الإمعان من قبل قيادة المنظمة في السير في طريق يقود إلى تمكين العدو الصهيوني من تحقيق أهدافه في تصفية القضية الفلسطينية.