وحدهم المسيحيون حتى اليوم، وبالأكثر الموارنة، تذهب اهتماماتهم نحو رئاسة الجمهورية واستحقاقها وما يسبقه من ترشيحات ومعركة مفترضة. شركاؤهم في الوطن تشغلهم هموم أخرى أشدّ إلحاحاً.

السُنّة قلوبهم على طرابلس البادية أشبه ببيروت 1975 في الأيام الماضية، وقبلها ومعها صيدا، فضلاً عن بيروت الواجفة دوماً من كوابيس 7 أيار.

الشيعة تشغلهم سوريا التي ورّطهم "حزب الله" والإيرانيون في حربها الأهلية. دخلوها بدءاً معتبرينها مساندة للبنانيين من طائفتهم يقيمون خلف الحدود، ثم دفاعاً عن مقام السيدة زينب على ما قال لهم الأمين العام للحزب السيد حسن نصرالله، ثم فتحت أبواب عنف وتهديد عليهم في لبنان بالتفجيرات، وعلى أبنائهم المقاتلين في سوريا في سبيل قضية غير مواجهة إسرائيل التي قام عليها الحزب أساساً. يشغل الشيعة أيضاً أنهم باتوا عنصراً في صراع مفتوح على مدى العالم الإسلامي وهم الأقلية فيه.

أما الدروز فتشغلهم حماية أوضاعهم وإبعاد التهديدات وارتدادات الصراع الكبير الدائر حولهم، سواء في سوريا أم في لبنان، عن بلداتهم وقراهم.

الجميع منشغلون بالمجزرة اليومية في سوريا وما يظهر على حفافيها من صفقات ويرافقها من سياسات دولية وإقليمية. ولكن يتفرد الموارنة تحديداً بهمّ الإستحقاق الرئاسي، والإنتخابات عموماً حتى النيابية منها.

ليس صحيحاً أن "تيار المستقبل" بادر إلى فتح الموضوع الإنتخابي مع بكركي. فالبطريرك بشارة الراعي أوفد الأسبوع الماضي إلى مسؤولي هذا التيار نائباً ووزيراً سابقين حاملين مشروعاً للإنتخابات البلدية قوامه الإنتخاب بالأكثرية في المناطق الصافية وبالنسبية في المناطق المختلطة، أي أن أبناء قضاء كسروان – الفتوح مثلاً ينتخبون وفقاً لنظام، وأبناء قضاء جبيل وفقاً لنظام آخر. نوقش المشروع ولم يلق ترحيباً وتنصّل منه أحد حاملَيه. على الأثر اتصل البطريرك بالرئيس فؤاد السنيورة وتلت الإتصال زيارة وفد "المستقبل" الثنائي، النائب أحمد فتفت والنائب هادي حبيش لبكركي، ثم زيارة الرئيس السنيورة للصرح مع الوفد "المستقبلي" مساء أمس .

رئيس كتلة "المستقبل" النيابية حرص على إطلاع حلفائه في قوى 14 آذار على هذه الأجواء والتوضيح أن البحث يتناول المبادئ لا التفاصيل. المبدأ الاول منع الفراغ في كرسي الرئاسة بعد انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان. والقاعدة الأولى أن هذا الإستحقاق الوطني مسيحي بامتياز أيضاً. لذلك على النواب المسيحيين أن يشاركوا جميعاً في جلسة الإنتخاب وألا يقاطعوها فيصير انعقادها شبه حتمي لأنهم سيجرّون بهذا الموقف حلفاءهم، حتى لو كانت هناك شكوك في أن "حزب الله" يفضل تعميم فراغ الدولة في المرحلة المقبلة. ماذا يستطيع البطريرك أن يفعل هنا مع القادة المسيحيين؟ الإجابة عن هذا السؤال كانت وستكون مدار بحث في بكركي والدوائر المتأثرة بها على الأرجح.

لكن من تُطرح أسماؤهم من اليوم للرئاسة ومن يطرحون أنفسهم مرشحين محتملين لا يضيّعون وقتهم، بل بدأت حركتهم تأخذ مكانها في الحياة السياسية. ينفتح الرئيس أمين الجميّل على الإيرانيين في سفارتهم وينتقل إلى بكركي، الممر الإلزامي، بعدما قرر "المستقبل" التنسيق معها في الموضوع الرئاسي، ومن الصرح يحدّد الجميِّل مواصفات للرئيس العتيد أبرزها أن يكون قوياً وشجاعا. النائب بطرس حرب عندما سئل إذاعياً أمس عن حركة الجميّل في اتجاه الإيرانيين أجاب: "من حق الجميع إقامة علاقات... ولكن، هناك في هذا الخصوص حزب الله". يستذكر أحد السياسيين هنا تصريحاً أدلى به وزير الخارجية السابق فارس بويز قبل انتهاء ولاية الرئيس الراحل الياس الهراوي. فحوى التصريح: "نحتاج إلى رئيس عريض المنكبين، عالي القمة والهمّة". فسأله السياسي مازحاً: "لماذا لم تقل أيضاً أن قياس حذائه 56؟".

هكذا عندما يضيف نائب البترون أن يدي الرئيس العتيد يجب أن تكونا غير ملطختين بالدم يقصد إبعاد المرشحين الأربعة الآخرين بجملة واحدة. يفهمها كذلك فوراً سياسيون تساءلوا في الساعات الماضية عن خلفية اللياقة فوق العادية في الحديث عن الترشح للرئاسة بين النائب ميشال عون والدكتور سمير جعجع، ويستنتجون أنهما يريدان هما أيضاً إبعاد كل مرشح سواهما لتنحصر المعركة بين "قويين" بمعيار للقوة غير الذي قصده الرئيس الجميّل الذي يعتبر مساعدون له أن صفة التوافقي التي يفضلها البطريرك الماروني تنطبق عليه، لا سيما لقدرته على الإنفتاح ومحاورة المختلفين معه سياسياً، وتتكامل مع خبرته ومراسه الطويلين.

هناك أيضاً من لا يأتي ساكناً ويُطرح إسمه على سبيل أن لبنان سار مع رئيسين على قاعدة الإنتقال من اليرزة إلى بعبدا، لكن هذه النقلة تحتاج إلى تعديل دستوري هذه المرة. المرة السابقة مع الرئيس سليمان كان وَقَعَ فراغ رئاسي وسقطت المهل الموجبة للإستقالة من الوظيفة العامة قبل 6 أشهر. وفوق التعديل الدستوري هناك عائق يتمثل في "حزب الله" الذي لم يساير حليفه ميشال عون في عدم التمديد للقادة العسكريين، لكنه لن يقدم وفق المتابعين على خطوة تنهي الحلف بينهما.

أما الوزير السابق جان عبيد غير المتفائل ولا المتشائم فمحسومة عنده . استبعدته القيادة السورية خمس مرات عن الرئاسة رغم علاقته الوثيقة والقديمة بها لأنه لا يقبل إملاءً، على ما يقول لبعض من زاروه أخيراً، وهذه المرة إذا هبت الريح في أشرعته فلن يوقفه عائق. قال لمرشح تاريخي قبل ايام: "لن أترشح إلا إذا تأكدت أن لا أمل لك في الوصول". إذا أعلن ترشيحه جان عبيد فلينتقل من سهيلة إلى بعبدا وإلا فلن. يُدرك ذلك خصومه الأضداد ولذلك قد يتوحدون موقتاً لقطع طريقه.