ليس المطلوب خطة أمنية لطرابلس؛ فالجيش أساساً موجود فيها ويعمل بوتيرة عالية. ما هو مطلوب لطرابلس، أن تكون نية إنقاذها متوافرة من خلال ضبط كل الأجهزة الأمنية تحت إمرة الجيش في هذه المرحلة الحساسة

مرة جديدة يوضع الجيش في مواجهة العابثين باستقرار طرابلس، بعد تكليفه مدة ستة أشهر مهمة حفظ الأمن في المدينة، في خطوة قد يراد منها في الواجهة أمن المدينة، أو العكس تماماً أن تكون طرابلس محرقة الجيش في زمن الاستحقاقات المحلية والتحديات الإقليمية.

وقد باشر الجيش إعداد غرفة عمليات مشتركة بقيادة العميد الياس سمعان، مهمتها التنسيق وإدارة العمل بين كافة الأجهزة الأمنية التي قال الرئيس نجيب ميقاتي بعد اجتماع بعبدا الثلاثي الذي ضمه ورئيس الجمهورية ميشال سليمان وقائد الجيش العماد جان قهوجي، إنها ستكون بإمرة الجيش، وهي الأمن العام وقوى الأمن الداخلي بكافة قطعه، ومنها فرع المعلومات بطبيعة الحال، وأمن الدولة والجمارك لوجودها أيضاً في مرفأ المدينة. وجميعها تعمل في طرابلس ولديها من الإمكانات الضرورية والمعلومات الحيوية اللازمة كي يأتي العمل الأمني متكاملاً ولا يأتي مجتزأً.

وفيما يستكمل الجيش تحضيراته، يبقى تكليفه حفظ الأمن في طرابلس مجرد كلام سياسي ما لم يقترن برؤية سياسة واضحة لطرابلس، وما دامت الاتصالات الهاتفية واللقاءات السياسية، تخفي الكثير من الذي لا يقال علناً. ومنها ما يتمحور حول نقطة واحدة: فريق يريد توقيف النائب السابق علي عيد ونجله رفعت لا أكثر ولا أقل، وفريق يريد أن يواجه باب التبانة ويريد توقيف مسلحين فيه، وأن يتصرف على هواه الأمني والسياسي تجاه المدينة.

ليس تفصيلاً ألا يطالب أي سياسي، ومن مستويات رفيعة، بأن تضبط الاشتباكات ويسود الأمن عاصمة الشمال بكل محاورها. مطالب البعض ومنهم أصحاب الشأن، أن يقبض الجيش على هذا أو ذاك من الأسماء. لم يتقدم مسؤولون فاعلون خارج الإعلام، بطلب محدد، كأن تصبح طرابلس خارج دائرة التوتير اليومية. فثمة توقعات متزايدة لدى كل طرف، لأن تكون حرب سوريا على وشك أن تنتهي، وأن تصب محصلتها النهائية في مصلحة هذا الفريق أو ذاك، ما قد يساعد على ترتيب وضعيات القوى السياسية شمالاً. لذا يريد الجميع إبقاء المدينة ساحة مشتعلة.

فمن يمكن أن يتصور انتصاراً للمعارضة السورية في بلادها، ويبقى جبل محسن كما هو حاله اليوم مع الحزب العربي الديموقراطي ولا تجري محاولة اجتياحه وتهجير أبناء طرابلس العلويين؟ ومن يتخيل أن ينتصر نظام الرئيس بشار الأسد، وتبقى باب التبانة وقادة المحاور فيه معزولة عن محاولات تحقيق انتصارات موازية فيها لتنكسر شوكة المسؤولين الأمنيين والسياسيين فيها؟

كل هذه المخاوف مطروحة على بساط البحث وبجدية تامة. لكن الحل ليس في الخطة الأمنية. الخطة أصلاً غير موجودة في قاموس الجيش، الذي يرفض تماماً أن تسمى عملياته في طرابلس «خطة أمنية»؛ لأنه أساساً يتحرك وينفذ عملياته من دون خطط أمنية؛ لأن ما هو مطلوب لطرابلس أكبر من خطة، بل ينقسم إلى مستويين: سياسي وأمني.

تتداخل العوامل السياسية في طرابلس. فالقوى السنية منها رسمي ومنها حزبي وقيادي وأمني، ومنها ما هو مع قوى 14 آذار وما يقول عن نفسه إنه وسطي، ومنها ما هو مع 8 آذار. والمشكلة بين هؤلاء تتعلق بالأجندة السياسية والأمنية المطلوبة لطرابلس، وبين ما يريدونه من الجيش. فهل يريدون ضبط الأمن، أم إبقاء باب التبانة في أيدي زعماء المحاور، أم القبض على رفعت وعلي عيد فحسب؟ هناك تقاطع مصالح، بين من يريدون تحقيق مكاسب سنية ـــ علوية على الأرض قبل جلاء وضع سوريا، وبين من يريدون تحقيق مكاسب «سنية». وفي هذا الجانب بات صراع المصالح السياسية يوازي عنصر السلاح قوة.

بالنسبة إلى قوى 8 آذار، هناك ألف سبب وسبب كي تبقى طرابلس مفتوحة على كل الاحتمالات، ربطاً بالحرب في سوريا. والانحياز إلى الوضع السوري ورفض أي محاولات حل جعلت من رفعت علي عيد (الذي لا توجد أي مذكرة توقيف في حقه) يرفض الانتقال كما طرح في إحدى المبادرات إلى عكار مثلاً أو يسافر خارج لبنان حقناً للفتنة، فتتولى إمرة الجبل شخصيات من أبناء طرابلس ممن تربطهم بالمدينة علاقات تواصل، من أجل سحب فتيل التفجير.

وبين الفريقين، كميات من الأموال تدفعها جميع القوى السياسية، تكشف لوائحها تباعاً ويعول عليها لإبقاء فتيل التفجير مشتعلاً، على إيقاع كميات السلاح التي توزع يومياً. واحدة من اللوائح منها تلك التي اعترف بها أحد الموقوفين المهمين أخيراً، عن تقاضيه مبالغ مالية من عدد من قيادات طرابلس الرسمية وغير الرسمية. لوائح بالأسماء وبالدفعات الشهرية، قد تصلح لأن تشكل مادة سياسية دسمة.

وبين الأطراف جميعها، هناك أيضاً القضاء الذي من أولى مهماته مواكبة عمل الأجهزة الأمنية لإصدار مذكرات التوقيف بحق المتورطين والمخلين بالأمن في طرابلس.

كيف سيتحرك الجيش وسط هذه التقاطعات؟

في الأيام الأخيرة لم تدر اشتباكات بالمعنى الفعلي بين المحاور التقليدية لطرابلس. وما حصل فعلياً هو أعمال قنص إجرامية استهدفت أبناء المدينة في الرأس وفي الأرجل. والطرفان مسؤولان تماماً عن الضحايا التي سقطت.

لذا، كانت عمليات الجيش شاملة للقبض على جميع القناصة في كافة المحاور، وعلى كل من أطلق النار على المدنيين والعسكريين. في المحصلة الأولى نحو 34 موقوفاً من كل الأطراف المتورطين، ومنهم خطرون وفاعلون. والعمليات ستستمر، في ملاحقة الفارين والمطلوبين، وبينهم أسماء معروفة ومتداولة، وتستمر أيضاً في تمشيط الأزقة والشوارع وفقاً لتعزيز قدرات الجيش في المدينة، وخصوصاً مع رفدها بعناصر جديدة ضمن مهمات التكليف الجديدة، ولا سيما بالنسبة إلى عناصر القوة السيارة التي ستوضع تحت إمرته. مع العلم أنه قبل أسابيع روجت بعض الأوساط السياسية في سعي واضح إلى توتير الوضع، أن الجيش يستعد لسحب قواته من طرابلس، في وقت كان فيه الجيش قد ضاعف من قواته العسكرية في المدينة وفي صدد زيادة عناصر أحد الأفواج المقاتلة.