ليست هي المرّة الأولى التي يتصاعد فيها الدخان من عاصمة الشمال. ف​طرابلس​ اعتادت في الآونة الأخيرة على "اشتعال النيران" بين الحين والآخر، وعلى حملات استنكار متقطعة تبكي على أطلال العيش المشترك و"الصورة الحقيقية للمدينة". وفي هذا الإطار، شهدت وتشهد حملة الإستنكارات المستمرة الناتجة عن إحراق مكتبة "السائح" التاريخية في السوق القديم وكلاماً يخرج من أفواه سياسيين وشخصيات للتشديد على ضرورة "درء الفتنة" و"التعالي على الجراح" وما إلى ذلك من مصطلحات أتقنها اللبنانيون وحفظوها عن ظهر قلب. أما أبناء طرابلس، المستنكرون حقاً لما يجري، فاختاروا رفض البقاء بمرحلة الشجب الكلامي، وتجمعوا بشكل عفوي، بادئين فوراً بعملية تنظيف ما خلّفه هذا الحريق، ومسح الأضرار تمهيداً لترميم المكتبة وكتبها في أسرع وقت ممكن، وسمّوا تحركهم "كفانا صمتاً".

رفض أصحاب هذه المبادرة ان يتم استثمارها بأي شكل من الأشكال من قبل اي جهة سياسية او حزبية، وسرعان ما انضمت إليهم جمعية "​فرح العطاء​" لتقديم مساعدتها بسبب الخبرة التي راكمتها في مجال نزع الركام الناتج عن الأيادي المدمّرة. وعلمت "النشرة" أن العمل جار اليوم على مستويين: المستوى الأول متعلق بالكتب، وقد جرى بداية التواصل مع مسؤولتي المكتبات في جامعة الروح القدس-الكاسليك وجامعة القديس يوسف، وقد حضرتا إلى المكان لإعطاء التوجيهات الميدانية لنقل الكتب بطريقة تحافظ عليها في عملية الإخراج والتنشيف بسبب تعرضها إلى الدخان وإلى الماء. أما المرحلة الثانية ضمن هذا المستوى فستقوم على الطلب من أخصائيين متطوعين بأن يقوموا بعملية فرز الكتب. ومن ثم، سيُفتح المجال في المرحلة الثالثة أمام كافة المتطوعين للعمل كيد عاملة متطوعة تحت إشراف الخبراء وعبر اتباع إرشاداتهم. وبهذه الطريقة، يكون العمل مهنياً ومحترفاً ولا يتناقض ذلك مع الإندفاع الشبابي.

أما المستوى الثاني، فيتعلق بالمبنى الذي طالته الأضرار أيضاً. وبحسب المعلومات، فإن البحث جارٍ لإعادة ترميم المبنى وفق الأصول الهندسية والمعمارية، وهناك إصرار من الشباب على إتمام أعمال الترميم بالإرتكاز على رأي هندسي، وبتجميله والحفاظ عليه.

وكان قد صدر بيان عن منظمي حركة "كفانا صمتاً" أعلنوا فيه انتهاء تنظيف مكتبة السائح من آثار الحريق وبدء التحضير لمرحلة إعادة الترميم ابتداء من السبت المقبل، وأشاروا إلى أن "التضامن الكبير الذي أظهره أبناء طرابلس أوّلاً ضدّ هذه الحادثة النكراء وعموم اللبنانيّين ثانياً، وضعنا أمام مسؤوليّة أساسيّة وهي توظيف هذا التضامن في الإتجاه الصحيح". واليوم فتح الباب أمام المتطوعين للتواصل مع مسؤولي هذه المبادرة لإبلاغ التفاصيل عن كيفية المساعدة.

يرفض الناشطون الذين تحدثنا إليهم أن تختزل المبادرة بشخص أو بمؤسسة أو بأي جهة من المجتمع المدني، واصفين إياها بأنها "مبادرة متكاملة، تضم إلى جانب الأخصائيين المتطوعين، مجموعة من الشباب ذوي النشاط والإندفاع للعمل، وطلاب جامعات وأهالي المنطقة، بغض النظر عن انتماءاتهم السياسية أو المذهبية، فالكل التحم إذاً لإعادة صورة طرابلس الحضارية".

كل ذلك، يجري اليوم تحت إشراف الأب ابراهيم سرّوج، صاحب هذه المكتبة، الذي يأخذ القرارات بالطرق التي يتم اعتمادها، ولكن حتى الساعة ما من مهلة معيّنة يحددها المعنيون بهذه المبادرة لإنهاء الأعمال، مشددين على أن هذا الحديث عن مهلة زمنية "غير ممكن حالياً".

أحد أفراد المجموعات الشبابية المتطوعة لترميم مكتبة "السائح" جهاد جنيد، أكد في حديث لـ"النشرة" أن "التحرك جاء بطريقة عفوية"، مشيراً إلى "عددا هائلا من الشباب الذين أتوا لمساعدتنا بإنقاذ الكتب". وأوضح أن "20% من مضمون المكتبة تضرر بشكل كامل أو جزئي، وضمن هذه النسبة، بعض الكتب يمكن إعادة ترميمها".

وعن انتشار أخبار حول خلفيات ما جرى، إذ يضعه البعض في خانة التطرف المذهبي، والبعض الآخر يحاول إبعاده عن هذه الصورة ووضعه في خانة المشاكل العقارية والتجارية، قال: "لا يهم السبب الذي دفع بكائن من كان للقيام بهذا العمل، لكننا كشباب طرابلس سنتابع مع القوى الأمنية حتى النهاية لنتأكد من أنه سيتم محاسبة الفاعل".

إلا أن مصادر مطلعة أكدت لـ"النشرة" أنه يجري العمل اليوم على "تطميس" الملف، كاشفة عن تسوية جرت تقضي بتنازل الأب سرّوج عن حقه مقابل عودته إلى المكتبة، وقد تم القبول بها "لكي لا تخاف الناس". وأوضحت المصادر أنه "لم يتم القاء القبض على أي من الفاعلين حتى الساعة رغم أنهم معروفون لدى الدولة اللبنانية".

أيامٌ قليلة إذاً قد تكون كفيلة لكي ينسى اللبنانيون ملف هذه المكتبة التاريخية، ويصبح هو بدوره "من التاريخ"، بحسب المصدر. أيام كفيلة لكي يعدّ "الطباخون" مخرجاً بـ"التي هي أحسن"، يفلت من خلاله المجرم من العقاب فتعود الأمور وكأن شيئاً لم يحدث. إلا أن الرماد، وإن غطّى الجمر، فهو لا يزال مشتعلاً بانتظار أي نسمة، ولو صغيرة، لكي تهبّ النار من جديد. ويبقى التعويل على دور القضاء والأجهزة الأمنية المعنية بمتابعة هذا الملف للقيام بدورها دون تلكؤ منعاً لتكرار مثل هذه الأعمال التخريبية.