يطرح إنفاق الأمم المتحدة في لبنان عدداً من المسائل. فهو إنفاق غير واضح اصلا بسبب تضارب الأرقام المصرّح عنها بين مليار دولار و881 مليون دولار في 2013. كذلك، هو إنفاق ذو «تأثير هامشي على الاقتصاد اللبناني»، وفق تعبير رئيس المركز اللبناني للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله

«إننا نقوم بدعم النازحين وكذلك الدولة المضيفة، أي لبنان. عام 2013 صرفنا نحو مليار دولار مساعدات لهذه المجموعات». هذه العبارة وردت على لسان المنسق الانساني والمقيم للأمم المتحدة في لبنان روبرت واتكنز، خلال مؤتمر صحافي عقده في 22 كانون الثاني الماضي. وقد سبقه وزير الصناعة فريج صابونجيان إلى تصريح مماثل يقول فيه: « الامم المتحدة صرفت في العام الماضي نحو مليار دولار للنازحين».

أين أنفق مبلغ المليار دولار؟ من استفاد منه؟ كيف يمكن قياس وقع هذا المبلغ على الاقتصاد المحلّي؟

الإجابات التي حصلت عليها «الأخبار» كانت مفاجئة. ردود الفعل من مؤسسات تابعة للأمم المتحدة ومعنية بتقديم المساعدة للنازحين السوريين، جاءت في سياق نفي إنفاق هذا المبلغ على النازحين السوريين في لبنان. موظفو الأمم المتحدة المكلّفون التعاطي في هذا الملف لم يتمكنوا من تفسير التناقض بين تصريحات واتكنز وتصريحات المفوضية العليا لشؤون اللاجئين على موقعها الالكتروني. لماذا واتكنز يصرّح عن مبلغ مليار دولار، فيما تؤكد المفوّضية أن المبالغ التي جمعتها لمساعدة النازحين السوريين في لبنان بلغت 881.7 مليون دولار، حتى 4 شباط 2014. المفوضية تؤكد أن حاجتها تبلغ 1.22 مليار دولار، أي إن الفجوة المالية لديها تبلغ 334.4 مليون دولار، ونسبتها 27%.

هذا التناقض بين أرقام المفوضية وأرقام واتكنز يصدم، لكنه قبل اي شيء يعزز قناعة، أولئك المطلعين على مسالك العمل في الأمم المتحدة، بأنها المؤسسة الأكثر بيروقراطية في العالم، وبأن الحصول على إجابة دقيقة منها يحتاج إلى وقت طويل، إذا توافرت الحقائق. لعلّ ما يحصل هو التماهي مع الحالة اللبنانية التي يكثر فيها الهدر تحت أشكال مختلفة وبعناوين متشابهة. ربما «الطريقة اللبنانية» هي التي تركت بصماتها على الأمم المتحدة، وربما هكذا يعمل النظام العالمي.

وفق مصادر مطلعة، فإن حجم الهدر المالي الذي يعصف بملف النازحين السوريين لدى الأمم المتحدة، أصبح كبيراً في ظل التراخي المعتمد في آليات الإنفاق. فعلى سبيل المثال، استدعت الجهة المعنية بتقديم المساعدات الاستشفائية للنازحين بعض مفتشي الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي للاستفادة من خبرتهم في مجال تدقيق الفواتير الاستشفائية المنفوخة. خلاصة بعض عمليات التدقيق أظهرت وجود فواتير ملغومة وأكلاف منفوخة، سواء في أعداد المستفيدين وأنواع الاستفادة، أو لجهة كلفة الخدمات الطبية المقدّمة للمرضى الفعليين... كل هذه «الخزعبلات» معروفة في تجارة الاستشفاء المزدهرة في لبنان، ومن السهل اكتشافها. في السابق جرّت هذه الممارسات المسؤولين عن أعمال التفتيش إلى الوقوع في فخّ الرشوة.

مهما تكن المعطيات الإدارية والميدانية، فإنها لا تفسّر أو تبرّر التناقض الحاصل في قيمة الإنفاق على النازحين السوريين في لبنان. واللافت إن برامج الإغاثة التي تديرها المفوضية، وتوزعها على باقي المؤسسات والمنظمات، التي يبلغ عددها أكثر من 65 بين منظمة تابعة للأمم المتحدة ومنظمات غير حكومية، تتطلب فريقاً ضخماً للعمل الإداري والميداني، ما يرفع الكلفة التشغيلية إلى حدود غير مقبولة، على حد توصيف بعض العاملين في الأمم المتحدة.

وبحسب المعطيات المتداولة بين عدد من المعنيين، فإن على الأمم المتحدة أن تبذل جهداً أكبر لتحسين شفافية الإنفاق خلال الفترة المقبلة، ولا سيما أنها تطالب بنحو 1.7 مليار دولار لتمويل أعمال إغاثة النازحين في لبنان. ففي عام 2014 تتوقع المنظمة أن يرتفع عدد النازحين السوريين إلى 1.5 مليون، منهم 100 ألف فلسطيني، وأن يتأثر أكثر من 1.5 مليون لبناني بالوضع الناشئ عن الأزمة السورية.

على أي حال، يختلف تأثير المبالغ المنفقة على الأسر السورية النازحة بحسب تصريحي واتكنز والمفوضية. فإذا أنفقت الامم المتحدة نحو مليار دولار في لبنان على190 ألف أسرة سورية نازحة خلال عام 2013، تصبح استفادة كل أسرة 5263 دولاراً سنوياً، أي ما يعادل 439 دولاراً شهرياً. أما إذا اعتبرنا أن الإنفاق الفعلي هو ذلك الذي صرّحت عنه المفوضية في شباط، أي 881.7 مليون دولار، فإن حصّة الأسرة السورية تبلغ 4640 دولارا سنوياً، و386 دولاراً شهرياً. الفرق بين الاثنين، هو 53 دولاراً شهرياً.

قدرة هذا المبلغ الصغير على التأثير، في ظاهرها هامشية، إلا أن المبلغ فعلياً يمثّل الكثير بالنسبة إلى النازحين السوريين الذين يصنّفون في غالبيتهم فقراء ومن أبناء الطبقة المتوسطة في سوريا. فبحسب دراسة أجرتها «أوكسفام» في لبنان، أن النازحين ينفقون شهرياً ما قيمته 275 دولاراً على الغذاء، و225 دولاراً على السكن، وأن إنفاقهم الشهري يبلغ 520 دولاراً. هذا يعني ان مبلغ الـ53 دولاراً يمثّل نحو 10.1% من الإنفاق الشهري.

بالنسبة إلى النازحين السوريين، هناك فرق بين قدرتهم على المعيشة في لبنان وقدرتهم في سوريا. ففي لبنان يتجاوز الدخل الفردي ما قيمته 9 آلاف دولار، مقابل 3 آلاف دولار في سوريا (قبل الأزمة).

ومن الأسئلة التي تتطلب الإجابة عنها هي تلك المتصلة بمدى تأثير إنفاق مليار دولار في السوق اللبنانية. الاقتصاد اللبناني، من دون أي شكّ يهضم هذا الإنفاق، سواء كان مليار دولار أو 881 مليون دولار. وبحسب رئيس المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق عبد الحليم فضل الله، فإنه يمكن تشبيه إنفاق الأمم المتحدة على النازحين، بالإنفاق الحكومي، وبالتالي له طبيعتان: إدارية، وفعلية.

بالنسبة إلى الطبيعة الإدارية «فقد عودتنا المؤسسات الأممية أن جزءاً من مساعداتها يذهب إلى الجهاز الإداري، الذي يدير صرف المساعدات. هذا القسم من الأموال التي تنفقها المؤسسات يختلف بطبيعته عن الأموال التي تصل إلى النازحين. فالمعروف أن النفقات الإدارية تغذي مداخيل مرتفعة ومتوسطة ولها أوجه إنفاق مختلفة تماماً عن أوجه إنفاق المساعدات، وذلك بحسب حاجات كلّ فئة» يقول فضل الله.

ويفسّر فضل الله التأثير الاقتصادي للمساعدات التي يحصل عليها النازحون، بالإشارة إلى أن العدد الأكبر من هؤلاء هم فقراء وما دون خطّ الفقر «لذلك، فإن الميل الحدّي للاستهلاك مرتفع، وبالتالي فإن هذه الفئة تنفق غالبية دخلها على الحاجات الأساسية (غذاء، مسكن...)، وبما أن معظم السلع الاساسية في لبنان مستوردة، فإن إنفاق هذه الفئة يموّل سلعاً مستوردة أكثر مما هي منتجة محلياً... لو أن هذه السلع منتجة محلياً لكان تأثير الزيادة في الاستهلاك الناتجة عن النازحين مضاعفة في النتائج، ولا شكّ أن استهلاك السلع المستوردة يخفف من التأثير الإيجابي على نموّ الناتج المحلي».

في المحصّلة، فإن المقارنة بين إنفاق الأمم المتحدة على النازحين، والإنفاق الحكومي في لبنان، يظهر أن فعالية إنفاق الأول أقلّ بكثير من الثاني الذي يصيب اسر متوسطة الدخل. واللافت أنه لا يمكن أن تزداد فعالية إنفاق الأمم المتحدة لأن «لبنان لا ينتج أكثر من 15% من السلع الصناعية والزراعية المستهلكة في لبنان. إن تأثير إنفاق الأمم المتحدة هامشي على اقتصاد لبنان» وفق فضل الله.