يكثر الحديث هذه الأيام عن أن القضية الفلسطينية تنحو سريعاً نحو اتخاذها وضعاً مشابهاً لما شهدته دولة جنوب أفريقيا أيام سيادة نظام التمييز العنصري (الابارتهيد) قبل سقوطه بفضل تضحيات ونضالات الجنوب افريقيين بقيادة المؤتمر الوطني.

وما يزيد احتمالية هذا الاتجاه انسداد الأفق أمام إمكانية تحقيق تسوية سياسية تسلم بها إسرائيل بإقامة دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، حتى ولو حصلت مقابل ذلك على تكريس شرعية احتلالها لما تبقى من ارض فلسطين التاريخية، ومعها المستوطنات الكبرى في الضفة الغربية والقدس وشطب حق عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى أرضهم وقراهم التي هجروا منها بقوة الإرهاب الصهيوني سنة 1948 .

وبات من الواضح أن الكيان الصهيوني، ومنذ سنوات، بدأ باعتماد سياسات الفصل العنصري، من إقامة الجدار العازل، والحديث عن فصل بين مناطق تواجد الفلسطينيين، والمستوطنات، إلى طرح ضم مناطق المثلث في الأراضي المحتلة عام 1948 إلى الدولة الفلسطينية المفترضة، مقابل ضم المستوطنات الكبرى في الضفة والقدس إلى الكيان الصهيوني لاعلان تسميته بالدولة اليهودية.

لكن من اللافت أن بعض الكتاب والمحللين العرب يرون أن الفلسطينيين يتجهون نحو اعتماد نموذج جنوب أفريقيا القائم على المقاومة الشعبية في الداخل، والدعوة إلى مقاطعة دولية لإسرائيل من الخارج، وأن هذا الاتجاه يأتي بعد إخفاق الكفاح المسلح الذي طبع تجربة منظمة التحرير الفلسطينية الذي اعتمدته لحظة انطلاقتها عام 1965، وظلت تنتهجه حتى توقيعها اتفاق أوسلو سنة 1993 .

وفي سياق التأكيد على سلوك الوضع الفلسطيني النموذج الجنوب أفريقي في مواجهة النظام الصهيوني العنصري، يبرز مؤشران اثنان:

المؤشر الأول: المقاومة الشعبية السلمية في قرية بلعين، والتي بدأت منذ عام 2004، واتسعت لتشمل قرى عديدة في الضفة الغربية محاذية للجدار العازل.

المؤشر الثاني: نجاح اللجنة المشكلة من قوى سياسية وناشطين ومتطوعين وأكاديميين، في تحقيق نتائج ملموسة لناحية إطلاق حملة دولية لمقاطعة إسرائيل، وتمثل هذا النجاح في استجابة مؤسسات أكاديمية واقتصادية وسياسية ونقابية حول العالم مع دعواتها لمقاطعة المستوطنات الصهيونية ومنتجاتها، والمؤسسات الإسرائيلية التي لها فروع في المستوطنات، والتي توجهت اخيراً باعلان الاتحاد الأوروبي وقف كل أشكال الدعم والتعاون مع مؤسسات تعمل في المستوطنات ابتداءً من العام الحالي، وإلزام إسرائيل إظهار منشأ كل سلعة تصل إلى السوق الأوروبية لتمييز سلع المستوطنات عن السلع المنتجة في إسرائيل.

وقد أدت هذه المقاطعة إلى انعكاسات سلبية على الاقتصاد الإسرائيلي، حيث تراجعت صادرات المنتوجات الزراعية للمستوطنات بنسبة 50%.

فيما سجلت الصادرات الصناعية والتجارية تراجعاً بنسبة 14%، وانعكس ذلك بتراجع الاقتصاد الإسرائيلي العام الماضي بنسبة 3.3% وهو الأدنى في الأعوام الأربعة الماضية.

لكن السؤال الذي يطرح في هذا السياق هو، هل أن هذا الانجاز كاف حتى نقول إن الوضع الفلسطيني يتجه نحو تطبيق نموذج النضال الذي اتبعه المؤتمر الوطني الإفريقي ؟

أم أن هناك ثغرات كبيرة في الوضع الفلسطيني تجعل من غير المنطقي الحديث أوتوماتيكيا عن الاتجاه نحو سلوك النموذج الجنوب إفريقي؟ .

من يدقق في الواقع الفلسطيني يلحظ أن هناك فروقاً كبيرة بين تجربة المؤتمر الوطني الإفريقي وتجربة منظمة التحرير الفلسطينية ، والواقع الفلسطيني الحالي، وهو ما يستدعي العمل فلسطينيا على معالجتها إذا أريد الاقتداء بالتجربة النضالية والكفاحية الظافرة التي جسدها المؤتمر الوطني بقيادة نيلسون مانديلا، وحقق من خلالها النصر على النظام العنصري في بلاده .

أولاً: النموذج الجنوب افريقي:

تميز النموذج الذي قدمه المؤتمر الوطني في نضاله ضد نظام الفصل والتمييز العنصري بوجود قيادة ثورية برئاسة الزعيم نيلسون مانديلا الذي جسد الصلابة والشجاعة الثورية على مدى عقود نضاله وكفاحه، والتي قضى خلالها نحو 27 عاماً في السجن، رافضاً المساومة على حريته وحرية شعبه متمسكاً بمواصلة الكفاح المسلح حتى تحقيق أهداف المؤتمر الوطني بإلغاء نظام الفصل العنصري.

والى جانب القيادة الثورية كان هناك تنظيم عسكري وسياسي وشعبي بقيادة المؤتمر الوطني يقود النضال في كافة الميادين على نحو لم يكن هناك تغليب لشكل على حساب آخر فكل شكل من النضال كان يكمل الآخر.

ولهذا أدى الاستمرار بالكفاح المسلح والشعبي والسياسي والدبلوماسي إلى كسب تعاطف وتضامن الرأي العام العالمي إلى جانب نضال الشعب الجنوب أفريقي والنجاح بدفع دول العالم، ومنها الدول الغربية التي كانت تدعم النظام العنصري، إلى اتخاذ قرارات لمحاصرة، وعزل هذا النظام مما أسهم في التعجيل بتحقيق النصر الذي لم يكن ممكنا لولا تضافر جميع اشكال النضال ووجود قيادة ثورية غير مساومة.

ثانياً: أين الواقع الفلسطيني من هذا النموذج المذكور انفاً ؟

اذا ما نظرنا الى واقع تجربة الثورة الفلسسطينية بقيادة منظمة التحرير منذ انطلاقتها عام 1965، وحتى اليوم، والقوى الاسلامية التي نهضت كبديل لها، بعد إخفاق المنظمة، نجد أنها لم ترتق إلى النموذج الذي شكله المؤتمر الوطني الإفريقي، رغم التضحيات الجسام التي قدمها الشعب العربي الفلسطيني.

فالقيادة الثورية التي تجسدت في قيادة المؤتمر الوطني برئاسة مانديلا لم يتوافر مثيل لها فلسطيني حتى الآن، حيث سادت قيادة جنحت إلى المساومة، وكان نفسها في النضال قصيراً ولم تتبن الكفاح المسلح كإستراتيجية يتكامل فيها كل اشكال النضال. فالكفاح المسلح لم يعتمد كاستراتيجية ثورية حتى يقال انه أخفق، وإنما اعتمد كتكتيك للوصول إلى المفاوضات، وجرى التخلي عنه، لعدم إيمان القيادة الفلسطينية به كأسلوب رئيس قادر على صنع النصر، ولهذا لم يجر توظيف التضحيات والانتفاضات الشعبية الفلسطينية وانجازاتها والمراكمة عليها لتصعيد النضال المسلح والشعبي لبلوغ النصر النوعي، كما حصل في جنوب إفريقيا، بل عمدت القيادة الفلسطينية إلى التفريط بهذه الانجازات، والتخلي عن أهم أوراق القوة التي كانت تملكها لاستنزاف العدو وكسب التأييد العربي والدولي، حتى باتت تفاوض العدو وهي فاقدة لأي ورقة من أوراق القوة.

والى جانب التخلي عن أوراق القوة المذكورة آنفاً فقدت قيادة منظمة التحرير الاستقلالية السياسية والاقتصادية بعد أن تحولت إلى سلطة تحت الاحتلال تعتاش على المعونات الغربية والضرائب التي يجيبها هلا الاحتلال .

أما الحديث عن النضال الشعبي السلمي في مواجهة الكيان الصهيوني الإرهابي العنصري، من دون أن يكون جزءا من إستراتيجية كفاح وطني تحرري شاملة ووجود قيادة ثورية، فانه يصب معه القول ان الواقع الفلسطيني يتجه نحو نموذج الذي اعتمده المؤتمر الوطني الأفريقي، لا سيما وأن الكيان الصهيوني بالنسبة للغرب يشكل القاعدة المتقدمة له في المنطقة لحماية مصالحة، مما يجعله غير مستعد لفرض عزلة دولية عليه، كما فعل مع النظام العنصري في جنوب أفريقيا، ولهذا يجب التحذير من الانعكاسات السلبية لتقديس النضال الشعبي السلمي والرهان عليه كشكل رئيسي في النضال من دون أن يكون جزءًا من إستراتيجية مقاومة مسلحة.