ذهبت "سكرة" تشكيل الحكومة اللبنانية التي امتدت على مدى أحد عشر شهراً، وجاءت "فكرة" البيان الوزاري التي بددت أجواء التفاؤل المفتعَلة التي انتشرت بعد الولادة الحكومية.
على الأرجح، كان الإحساس بالتفاؤل مختصاً بمحطة التشكيل لا أكثر.. لم يقل أحد إن عقبة توزيع الحقائب والحصص كانت الوحيدة التي تقف في وجه نجاح الرئيس تمام سلام في مهمته الصعبة، فللبيان الوزاري عقده وعقباته، وهو موضع التفاصيل التي يكمن "الشيطان" فيها.
لم يتنبه المتفائلون إلى تحوّل مسيحيي 14 آذار إلى رأس حربة أمام التطرف الذي يرعاه "تيار المستقبل" في عدائه للمقاومة، للخلاص منها ومن سلاحها، في سياق تبعيته للسعودية المنخرطة في المشروع الأميركي - "الإسرائيلي" المرسوم للمنطقة.
الواضح أن الأمر لا يقتصر على ذلك؛ هو رد وانتقام لإسقاط حكومة سعد الحريري وهو بباب باراك أوباما، كان الهدف أولاً عزل "حزب الله" ومنعه من المشاركة في الحكومة، عبر تشكيل حكومة "غير سياسية" أو "أمر واقع"، والآن بات الهدف واضحاً: شطب ذكر المقاومة في البيان الوزاري، والاحتيال على النص، بإسقاط حق اللبنانيين في مقاومة العدو "الإسرائيلي"، عبر تمرير نص ملتبس يشبه التباس نص القرار الدولي 242، الذي أضاع حق العرب بين "الأرض" و"أرض" محتلة، وفق اختلاف الترجمتين العربية والإنكليزية، وهكذا يتشتت حق اللبنانيين في المقاومة، بنص يتحدث عن "حق لبنان".. أي لبنان يقصدون؟ هل هو ذلك الذي نثر الزهور على جنود العدو الذين غزوا بيروت عام 1982، أم ذلك الذي استقوى بدبابات "إسرائيلية" وقفت على أبواب ثكنة الفياضية لتحرس انتخاب بشير الجميل رئيساً؟ في حين أن وصف المقاومة باسمها، وأنها مقاومة الشعب، هي الحد الأدني من الاعتراف بالشهداء والأبطال الذين بذلوا دماءهم وأرواحهم لطرد "الإسرائيلي" من الجنوب، علماً أن تغييب ذكر المقاومة ودورها عن البيان الوزاري أمر لا يمكن تسويقه شعبياً.
الآن تريد جماعة "14 آذار" تكريس ما سمي "إعلان بعبدا" وصولاً إلى تحييد لبنان في الصراع ضد العدو الصهيوني، خصوصاً أن للتحييد مناصرين عرباً ولبنانيين، وهؤلاء أشاوس في الحروب الداخلية، يدمرون الأوطان ويقتلون ناسها ويهجرونهم، لكنهم جبناء عن قتال "إسرائيل".. هم فقراء عاجزون عن شراء السلاح لحربها، لكنهم يصرفون عشرات مليارات الدولارات في التآمر على المقاومة، وفي تدمير سورية، لذلك يطالبون بالحياد.
قبل أسابيع وضع الخلاف حول تشكيل الحكومة لبنان على مفترق خطير، وجرى الالتفاف على عقدة التشكيل باتفاق ضمني بوضع وديعتين لكل من قوى الثامن والرابع عشر من آذار ضمن "حصة" رئيس الجمهورية في "الكتلة الوسطية"، الوزير الكتائبي الثالث الآن حكيم، والوزير الشيعي الخامس عبد المطلب الحناوي، الذي لا مرجعية سياسية له، بعد شهرين عندما يغادر الرئيس سليمان إلى منزله، إلا الرئيس نبيه بري.
بعد أحد عشر شهراً رضخت قوى الرابع عشر من آذار ومن يحالفها وقبلت بتشكيل حكومة "9+9+6" ضمناً، فهل تخاطر هذه القوى بإطالة أمد التفاوض حول البيان الوزاري، الذي يوصل الحكومة إلى مجلس النواب لتنال ثقته، بما يتعدى المهلة القانونية المحددة لها بشهر واحد، فتصبح مستقيلة تصرّف الأعمال، ويجري البحث عن تكليف جديد، يستهلك الوقت ويشد الانتباه بعيداً عن الاستحقاق الرئاسي، بما يفرض سابقة غير معهودة في تاريخ لبنان، تتولى فيها الحكومة، التي يترأسها مسلم، إدارة البلد، في غياب الرئيس الماروني، ويحكم لبنان للمرة الأولى من غير ماروني؟
هذه السابقة كان يمكن أن تتحقق خلال الانتداب الفرنسي، عندما انتخب مجلس النواب الشيخ محمد الجسر رئيساً، فحلّ المندوب السامي الفرنسي المجلس لمنع هذه السابقة ولو ليوم واحد، والأمر نفسه حدث في نهاية حكم أمين الجميل، الذي تخطى وجود حكومة شرعية ودستورية يرأسها سليم الحص، وكلف المجلس العسكري بأن يكون حكومة، وأدخل البلد في حرب دموية ما يزال اللبنانيون يعانون منها، فهل هذا ما تريده قوى 14 آذار، خصوصاً مسيحييها المتطرفين في رفضهم لثلاثية "الشعب والجيش والمقاومة"؟
الساعات أو الأيام المقبلة كفيلة بتحديد الاتجاه الذي سيسلكه لبنان في أزمته، البيان الوزاري وما يحتويه سيكون بوصلة حصول الاستحقاق الرئاسي في موعده أم تأجيله، أيضاً بوصلة موقع المقاومة في البيان الوزاري، خصوصاً أنها هي التي تتلقى الهجمات والطعنات، بدوره سيكون بوصلة للآتي! وفي كلا الحالات يبدو أن رئيس مجلس النواب، الذي يدوّر الزوايا ويوجد الحلول، هو الشخصية الأقوى في هذه المرحلة، فهل ينجح في إيجاد حل لمعضلة البيان الوزاري، ثم للاستحقاق الرئاسي؟