يتواصل الجدل العقيم حول عبارات البيان الوزاري، فيما فتح خط نقاش جدي حول الاستحقاق الرئاسي، ورفع المجتمع الدولي اهتمامه بشؤون النازحين السوريين، من دون ان يلاقيه لبنان على المستوى ذاته

في غمرة الانشغال الداخلي بالبيان الوزاري، سجلت محطتان اساسيتان فتحتا الباب امام رياح جديدة على لبنان، بعيداً عن التجاذبات الوزارية. الاولى دعوة النائب وليد جنبلاط الى الاتفاق على رئيس توافقي. والثاني اعلان الامم المتحدة تحول سوريا إلى اكبر بلد نزوح، وان في لبنان الحصة الاكبر من النازحين السوريين، قياساً الى عدد سكانه، اذ يكاد يبلغ عددهم نحو مليون نازح.

في الشكل لا ترابط بين الخبرين. الا ان غرق الوسط السياسي في التكهنات حول امكان صدور البيان الوزاري وموعده، يفتح المجال لقراءة ما هو ابعد من الغرق في ازمات لغوية، فيما الانشغال الاقليمي والدولي في مكان آخر، للبحث عن تسويات من اوكرانيا الى العراق وسوريا والمفاوضات الاسرائيلية ــــ الفلسطينية، ويسلّط الضوء على القضية المركزية، اي الانتخابات الرئاسية، مع كل ما تحمله من مفاتيح اقليمية وكلمات سر دولية، ويعيد احياء ملف النازحين السوريين الحامل جملة عناصر متفجرة، كواحد من الملفات الملقاة على عاتق لبنان لسنوات طويلة آتية.

فقد فتح جنبلاط باب الانتخابات الرئاسية من مكان مختلف تماما، بدعوته الى التوافق على الرئيس الجديد للجمهورية، بعيدا عن حسابات القوى السياسية والمعسكرين الحاليين. وفي كلام جنبلاط، بصفته واحداً من الناخبين، تصويب على مسار المعركة الرئاسية مبكراً، في خضم اللقاءات المحلية والخارجية التي تعقد للترويج لمرشحين من 8 و14 آذار. كما ان كلامه يتعدى مجرد الدعوة الاعلامية الى التوافق المثير للجدل والنقاش، اذ انه يقذف الكرة ابعد من الحكومة والبيان الوزاري، ليحدد للحكومة عمرا قصيرا لا يتعدى الاشهر المعدودة، قبل الذهاب الى انتخابات رئاسية في موعدها. من هنا، يبتعد عن الغرق في دهاليز البيان، الذي سيجف حبره بعد ساعة على صدوره، ليصوب الاهتمام على الاستحقاق الرئاسي بصفته محطة مفصلية على طريق التسويات الاقليمية.

حتى الان لا يبدو لمتصلين بدوائر اقليمية ان الاتجاه حسم لمصلحة تسوية متكاملة، تبدأ بالحكومة وتنتهي بالانتخابات الرئاسية، برغم ان الحركة الاقليمية والدولية تدفع في شكل جدي الى هذا النوع من الاتفاقات التي تؤمن الاستقرار في لبنان على مشارف مواعيد اقليمية في سوريا وايران والعراق، بحيث تحيّد احدى الساحات المتوترة من اجل الانصراف الى معاينة ما هو اكثر خطورة، ما يمكن ان يترجم اجراء الانتخابات في مواعيدها حفاظا على الاستقرار.

لكن، واستباقا للمواعيد الرئاسية، حتمت التسوية الظرفية ايجاد حكومة بالحد الادنى من المقوّمات، ما جعل عملية اخراج التأليف سريعة. لذا يبدو عبثياً ان يذهب الطرفان المتخاصمان الى البحث عن جنس الملائكة في البيان الوزاري، ما داما قد ارتضيا العيش معاً تحت سقف التقارب الغربي مع ايران ومباركة السعودية. فالطرف المتمسك باعلان بعبدا ليجبر حزب الله على الخروج من سوريا، سبق ان قبل مشاركة الحزب، المنغمس الى الحد الاقصى في سوريا، في الحكومة والجلوس معه إلى طاولة واحدة. فهل استنفاد التعابير العربية واستنباط مفردات جديدة، سيدفعان الحزب الى اعلان حياده والخروج من سوريا؟ وهل يحتاج الحزب الذي يرمي اليوم كرة «ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة»، على الرئيس فؤاد السنيورة، الى ذكر هذه الثلاثية اذا قرر القيام بأي عمل فردي ضد اسرائيل؟

يعرف الطرفان انهما مضطران الى المساكنة في حكومة طُلب منهما الانضمام اليها، بعدما سلكت الاتفاقات الدولية طريقها. لذا يصبح تضييع الوقت في ازمة لغوية لا مبرر له، فيما تداعيات الازمة السورية التي يتذرع بها الطرفان تمعن في اضفاء مزيد من المواد المتفجرة على لبنان. واذا كان عمر الحكومة قصيرا ولا يتعدى الاشهر القليلة، والاستحقاق الرئاسي فتح على مصراعيه، يصبح الانشغال بالبيان وادبياته في واد، وملف الامن والارهاب وحمل ملف النازحين في واد آخر.

وبعيدا عن تحميل المسؤوليات حول دخول حزب الله الى سوريا، لا يتمعن المسؤولون الجدد في عدد الذين قبض الجيش عليهم اخيراً بتهمة الاعداد لعمليات ارهابية، او في عدد الانتحاريين الذين نفذوا عمليات انتحارية في لبنان في اسابيع قليلة، ونسبة العدد قياسا الى سكان لبنان، او حتى قرأوا بجدية الاعترافات التي يدلي بها الموقوفون. فهل هناك افضل من هذه الزاوية ليقارب من خلالها البيان الوزاري تداعيات الازمة السورية على اللبنانيين، بدل التفتيش عن مخارج لذكر بدعة اعلان بعبدا والثلاثية.

كما ان قراءة ارقام الامم المتحدة حول عدد اللاجئين السوريين، ونسبتهم في لبنان، او حتى ارتفاع عددهم الى نحو خمسين الفاً في عرسال وحدها، يكفي لالقاء الضوء على حجم ما ينتظر لبنان، ولا سيما بعد ما قاله المفوض السامي لشؤون اللاجئين انطونيو غوتريس امام الجمعية العامة للامم المتحدة، حين دعا الى «دعم دولي اكبر لجيران سوريا»، متحدثا عن التداعيات الديموغرافية لازمة النازحين السوريين عليها.

ينذر اكثر من سياسي فاعل بما تخفيه ازمة النازحين، يوما بعد آخر، من حيثيات مختلفة عما سبق ان شهدناه، امنيا واجتماعيا واقتصاديا. اذ لم يعد مجديا الكلام عن صناديق خاصة او عامة او مساعدات انسانية، لان الازمة ليست ازمة انسانية فحسب. وهي مرجحة لان تبقى وتتفاعل اعواماً طويلة، ما دامت الخطط المرسومة لسوريا لم تنته بعد، والمؤتمرات التي تعقد لتقدير حجم اعادة الاعمار ورصد الاموال لها لا تزال غير متفائلة بقرب حل هذه الازمة التي تكبر في كل يوم. الامر الذي يبقي قضية النازحين عنصر ازمة حقيقياً، يتعدى المواكبات الاعلامية والاطلالات السياسية الظرفية لمشكلة باتت خطورتها اكبر من حجم اي ملف لبناني داخلي، بحسب ما تنذر تقارير سياسية وامنية. ولا يتفاءل اي من المتابعين لهذه القضية في ان يكون لبنان الرسمي اليوم قد اعد نفسه بجدية لاحاطة شاملة بهذا الملف دوليا واقليميا، فضلاً عن التجييش والتفتيش عن الصناديق والافادة منها. فها هو المجتمع الدولي يستنفر لمقاربة فضلى لقضية النازحين، فيما يغرق لبنان في ازمة لغوية.