ليس هناك من وضع يمكن أن ندلل فيه على مدى محدودية قوة الولايات المتحدة، وحال التراجع الذي تشهده، ويؤشر إلى دخول الإمبراطورية الاميركية في طور الشيخوخة الذي سبقتها إليه امبراطوريات كبرى في التاريخ (الرومانية والبريطانية)، سوى وضع الأزمة الأوكرانية التي تشكل هذه الأيام الاختبار العملي لمدى قوة الغرب بقيادة أميركا على إثبات قدرته في وقف الصعود المتزايد قوة واندفاعاً لروسيا الاتحادية نحو احتلال المكانة الدولية التي كان يحتلها الاتحاد السوفياتي السابق.

ففي أوكرانيا تجسد إلى ابعد الحدود حال العجز الذي باتت عليه الإمبراطورية الاميركية فهي لم تعد قادرة إلاّ على اطلاق التهديدات الفارغة التي لم تعد تخيف دولاً صغيرة مثل فنزويلا، فكيف بروسيا بوتين التي تعرف جيداً عناصر قوتها، وعناصر قوة خصمها الأميركي، وتحسن إدارة الصراع معه إلى حد حافة الهاوية، لأنها تدرك إلى أي مدى باتت فيه قدرات الغرب بقيادة أميركا متواضعة، ومحدودة في ظل الازمات الاقتصادية والمالية العاصفة بدوله، والتي جعلت بعضها في حالت افلاس، أو غارقة في ديون مهولة، إلى جانب بطالة لم يسبق لها مثيل ( اليونان، اسبانيا، البرتغال، ايرلندا، ايطاليا ... الخ ) فكيف بإمكانها مواجهة روسيا القوية اقتصادياً ومالياً عدا عن قوتها العسكرية والنووية.

لذلك كانت الأزمة الأوكرانية اختباراً حقيقياً كشف عن صعود القوة الروسية من ناحية، وعن محدودية قوة الغرب من ناحية ثانية. فلم تصغ روسيا بوتين للتهديدات الاميركية الغربية بفرض العزلة عليها، إذا ما أقدمت على ضم جزيرة القرم إلى الاتحاد الروسي، وسارت بخطى ثابتة غير آبهة أو مكثرته بتحذيرات الغرب وواشنطن ونفذت الخطوات القانونية والدستورية لضم شبه جزيرة القرم الإستراتيجية إلى الاتحاد الروسي، الذي يطمح الرئيس فلاديمير بوتين لجعله الصيغة الجديدة المطورة والديمقراطية والمبنية على المصالح المشتركة التي تعيد الترابط بين دول الجمهوريات السوفياتية السابقة، مصححا سياسات جوزيف ستالين التي اتبعت خلال تشكيل الاتحاد السوفياتي عقب الحرب العالمية الثانية.

وعندما يعجز الغرب عن فعل أي شيء أمام هذا التقدم الروسي نحو استعادة روسيا أمجادها كقوة عظمى فهذا يؤشر إلى دلالات مهمة أبرزها: الدلالة الأولى: إن الولايات المتحدة الاميركية كقوة عظمى، لم تعد قادرة على فرض إملاءاتها وشروطها لاخضاع الدول لسياساتها، لا بواسطة القوة العسكرية، ولا بواسطة فرض العزلة الاقتصادية عليها، والتجربة مع إيران قبل روسيا خير دليل على ذلك، وما كلام وزير الخارجية روسيا سيرغي لافروف بأن لا احد يستطيع عزل روسيا عن العالم إلا تعبير جلي عن هذه الحقيقة.

الدلالة الثانية: إن الوقائع الاقتصادية هي التي تحدد القدرات السياسية للدول وتجعلها اما قادرة على تنفيذ سياساتها أو عاجزة. فروسيا القوية اقتصادياً ومالياَ واستطراداً عسكرياً تبدو اليوم قادرة على فرض سياساتها، وهو ما تدل عليه مواقف مسؤوليها من ناحية، وخطواتها العملية بمنع الغرب من السيطرة على اوكرانيا وتهديد أمنها القومي من ناحية ثانية، أما الدول الغربية، المتراجعة اقتصادياً فهي تعاني من المديونية، واستطرادا عاجزة عسكرياً ما يعني أنها باتت ضعيفة سياسياً وغير قادرة على ترجمة مواقفها التصعيدية إلى خطوات عملية.

وهذا الفارق يتضح من خلال مقارنة بين ما تملكه روسيا من قدرات اقتصادية ومالية كبيرة، وبين ما أصبح عليه الغرب من تراجع قدراته الاقتصادية والمالية، فروسيا تعيش حالة استقرار وازدهار اقتصادي ونمو متزايد وتملك احتياطيا كبيرا من العملات الصعبة، فيما دول الغرب تعيش حالة تراجع اقتصادي، وعدم استقرار اجتماعي، وتعاني من الديون السيادية الكبيرة ما يجعل أي خسارة جديدة تتعرض لها تضاعف من أزمتها ولهذا وجدت نفسها عاجزة عن اتخاذ قرارات اقتصادية ضد روسيا إثر ضمها جزيرة القرم لأنه سيكون لها نتائج سلبية عليها، وفي هذا السياق رأى مايكل برينر وهو باحث أميركي مرموق يعمل بمراكز أبحاث عدة بينها مركز الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جون هابكنز «أن العقوبات الاقتصادية التي ستتخذها أميركا وحلفاؤها الأوروبيون لن تكون فعالة لأسباب منها اعتماد أوروبا الغربية على الطاقة الروسية وحصة استثماراتها في روسيا فضلا عن غياب الإدارة السياسية في برلين وباريس ولندن».

هذا الواقع هو الذي دفع إلى رجحان كفة الرأي البراغماتي داخل الاتحاد الأوروبي الذي دعا إلى المحافظة على علاقات جيدة مع روسيا وعدم اتخاذ خطوات تلحق الضرر بالعلاقات معها خصوصاً في المجالين الاقتصادي والتجاري، إذ أن أي مقاطعة اقتصادية لروسيا سترتد على دول الاتحاد ولهذا اكتفى الاتحاد الأوروبي بإصدار بيان متواضع استعرض فيه عدم الرضا عن السياسة الروسية، وعدم الاعتراف بنتائج الاستفتاء في القرم، واقترح إرسال بعثة مراقبين إلى أوكرانيا.

على أن الموقف الألماني أسهم اسهاماً كبيراً في عدم دفع العلاقات الروسية الأوروبية إلى القطيعة بسبب حجم المصالح الألمانية في روسيا، واعتماد أوروبا كلها على الغاز الروسي الذي لا يوجد حتى الآن بديل له للاستغناء عنه.

الدلالة الثالثة: كشفت الأزمة عن أن التداخل في الاقتصاد العالمي بات عاملاً كابحاً للحرب بين الدول الكبرى، فحجم التداخل بين اقتصادات الدول الغربية، وروسيا والصين بلغ مستوى بات يتحكم بسياسات ومواقف الدول الكبرى ومن الطبيعي أن يكون من هو بحاجة أكثر للآخر هو الأضعف في هذه المعادلة، وهذا ما اشر إليه الموقف الأميركي الغربي الذي ظهر ضعيفا في مواجهة روسيا غير قادر على التأثير أو تغيير وجهة القرار الروسي بضم جزيرة القرم.

وهو ما دفع الكاتب الاميركي دانا ميلبانك إلى القول في مقالة له في صحيفة واشنطن بوست، « إن الأزمة الاكروانية تشي بمحدودية القوة الاميركية، وانه ليس بمقدور الولايات المتحدة وقف الغزو الروسي للقرم« ولهذا يصح القول إن الأزمة الاوكرانية كشفت ضعف أميركا والتحول الحاصل في ميزان القوى الدولي. ولا شك في أن هذا الضعف الأميركي الغربي أمام الزحف الروسي لاستعادة روسيا نفوذها في الجمهوريات السوفياتية السابقة سيكون له تداعيات على مسرح الازمات في المنطقة والعالم، وسيؤدي الى مزيد من تراجع مكانه أميركا واضعاف سطوتها وهيبتها الدولية.