قد يكون من سوء حظ هذا العالم الذي وجدنا فيه أن تكون الرقعة الجغرافية التي تسمّى لبنان من النقاط الساخنة للتنوع البيولوجي. فمسؤولية الدولة اللبنانية تجاه الحياة على الأرض كبيرة وليس تحملها أو عدمه خياراً متاحاً بل واجباً وضرورة، إلا أن الإهمال وعدم الصرامة في تطبيق القوانين ما زالا سيّدي الموقف، أو اللا موقف، وما يجري بحق طائر اللقلاق ليس سوى دليل آخر على غضّ النظر عن الجرائم التي ترتكب بحق الطبيعة والحياة بشتّى أشكالها في بلادنا.

شاهدة عيان على المجازر

من بلدة فيع في قضاء الكورة، ومن شرفتها المطلّة على البحر من جهة وعلى التلال المحيطة من جهة أخرى، ترى سامانتا هوفيك منذ سنوات مضت وفي ظاهرة ما زالت تتصاعد وتزداد يوماً بعد يوم، كيف تتساقط طيور اللقلاق في سماء لبنان، الواحدة تلو الأخرى، كـ"حبوب الفوشار"، فتترك بعد اصطيادها على الأرض... فيرسم الصيّاد "البارع" على وجهه علامة انتصار و"رجولة"، يلتقط بعض الصور، ويغادر.

عبثاً حاولت سامانتا أن تردع هؤلاء الصيادين، الذين يتوجهون بالعشرات، وخصوصاً في أيام عطلة نهاية الأسبوع إلى قضاء الكورة، من خلال الطلب إليهم شخصياً بعدم التعرض لهذا الطائر الكبير والجميل، أو من خلال حتى الصراخ عليهم لكي يتوقفوا عن ذلك، ومن خلال البلدية، والجمعيات المحلية والدولية، وحتى من خلال وزارة البيئة، وهي تتنهد وتقول اليوم: "لقد فقدت الأمل وما باليد حيلة... يبدو أن لا أحد يقوم بشيء في هذا البلد. الكل يعد، ويتحدث ويخاطب، لكن لا أحد يتحرّك، ولا أحد يتخذ أي قرار". وتتابع: "كمن يذهب إلى الحرب، تتوجه مواكب السيارات الرباعية الدفع أيام الآحاد إلى القضاء"، ومن ثم... "المجازر". وتروي كيف رأت يوماً صبياً يقتل 100 من طيور اللقلاق ومن ثم يغادر.

يعتبر رئيس جمعية "الأرض لبنان" ​بول أبي راشد​ أن ما يجري هو انعكاس لروح إجرامية لدى البعض، كاشفاً أن "إحدى الجمعيات المتخصصة بمكافخة المجازر بحق ​الطيور​ حللت بعض الصور التي أرسلناها إليها من لبنان، واكتشفت أن 145 نوعاً من الطيور المحمية عالمياً يتم صيدها هنا، ومن بينها اللقلاق".

ومنذ العام الماضي، بدأت جمعية "الأرض" بحملة لمكافحة هذا الصيد غير المسؤول، وأرسلت الملفات إلى وزارة البيئة والداخلية والزراعة، و"لم يقم أحد بشيء" بحسب ما يؤكد أبي راشد، بل إن الجواب الذي حصلوا عليه من وزارة البيئة هو أن الجمعية تسيء إلى سمعة لبنان في الخارج بسبب نشرها لصور المذابح بحق الطيور.

غضب أوروبي

إلاّ أن "تشويه صورة لبنان في الخارج" قد تمّ بالفعل، ولكن ليس بسبب بعض الصور التي نشرتها الجمعية، بل بسبب مئات الصور التي ينشرها الصيادون اللبنانيون عبر مواقع التواصل الإجتماعي، التي لا حدود لها ولا حواجز، مما أدّى إلى إنشاء صفحات إلكترونية عديدة عبر الفايسبوك تدعو لوقف ما يجري. أما التعليقات على هذه الصور التي تأتي في كل اللغات ومن قبل أناس من مختلف الجنسيات، فلا يمكن حتى نقلها نظراً لما تحمله من إهانة بحق الشعب اللبناني ككل... إهانة، لا يقبلها عدد كبير من اللبنانيين كون هذه الأعمال تجري على أيدي أقلية، وبالتالي فلا تعبّر عنهم ككل.

ومنذ أشهر أيضاً، بدأت الرسائل تصل إلى سفارة بولونيا في لبنان، استنكاراً للمجازر التي تلحق بطائر اللقلاق، وللطلب من السفير بالقيام بـ"شيء ما" لإيقافها.

فاللقلاق هو الطائر الأكثر شهرة في بولونيا، وهناك عدد كبير من القصص والأساطير عنه، وأكثرها رواجاً "أنه يجلب الأولاد والسعادة والغزارة". يبني البولونيون الأعشاش للقلاق قرب منازلهم وينتظرون عودته إليهم بعد الهجرة التي يقوم بها إلى أفريقيا مروراً بلبنان وبلدان المنطقة. فهو من الطيور الحوائم، أي الطيور التي تستخدم الهواء الساخن لتحوم، لا حركة الأجنحة، ولذلك تهاجر إلى إفريقيا، ومنها تعود إلي بولونيا وغيرها من البلدان الأرووبية، حيث تعشعش وتتكاثر. وبحسب أبي راشد، فإن الأوروبيين يتكلفون ملايين اليورو لحمايتها، ولذلك فهم غاضبون اليوم مما يجري في لبنان.

طائر اللقلاق كالأرز في لبنان

السفير البولوني​ في لبنان فويوتشخ بوزك يكشف كيف وصلت إلى بلاده صور "مخيفة وبربرية" لما يتعرض له هذا "الطائر الوطني"، الأمر الذي سبب له "حرجاً كبيراً"، خصوصاً وأنها انتشرت عبر التلفزيونات وشتى وسائل الإعلام المحلية، وبات يفكر البعض أن "لبنان هو فقط قاتل طيورنا، وهذا الأمر سلبي لصورة لبنان، وأنا لا أقبل به، وأنا لا أعتقد أن كل اللبنانيين يحبون ذلك ويعتبرونه كرياضة وطنية".

ويوجه عبر "النشرة" طلباً لـ"الأصدقاء اللبنانيين"، ويقول: "أرجوكم، توقفوا عن القيام بذلك، لأن هذا الأمر يسيء إلى سمعة بلدكم"، كاشفاً أن "سفارة لبنان في وارسو تواجه أيضاً مشكلة في هذا الإطار وتسعى أيضاً لمساعدتنا لنشر التوعية في لبنان".

وإذ يشيد بالعلاقات الرائعة بين البلدين، خصوصاً وأن لبنان "استقبل حوالي 5000 لاجئ بولوني إبان الحرب العالمية الثانية"، يشدّد على أنّ معالجة مسألة طائر اللقلاق باتت ضرورة اليوم كونه رمز وطني بولوني "تماماً كالأرز في لبنان".

ويتمنى السفير البولوني أن يتم تطبيق القانون الذي صدر عام 1994، ويقول: "أنا كسفير لا أتدخل في تطبيق القوانين، ولكنني أطلب وأرجوكم أن تخلصوا هذه الطيور".

وتجدر الإشارة إلى أن اجتماعاً عقد بين السفير ووزير البيئة محمد المشنوق تم فيه التطرق إلى هذا الموضوع، وأن الحركة البيئية اللبنانية قد أرسلت في 17 آذار الماضي كتاباً إلى وزارة البيئة حول هذا الأمر ولكنها لم تتلق أي جواب حتى الساعة.

اقتراح حل من وزارة البيئة: تعبئة طلب هبة مالية؟

سامانتا هوفيك تخبر أيضاً عن تجربة سلبية شخصية خاضتها مع وزارة البيئة. فبعد أن وقعت بلبلة في البلدة نتيجة قيام أحد الصيادين بوضع 5 طيور دامية أمام عتبة منزلها بسبب معارضتها لهذا الصيد، ومن ثم ألقي القبض على الفاعل، اتصل وزير البيئة السابق ناظم الخوري بهوفيك، وأكد لها اهتمامه شخصياً بهذا الموضوع، واعداً إياها بالسعي لوقف هذا الأمر. طلب منها الخوري التواصل مع مدير مشروع الطيور المهاجرة في برنامج الامم المتحدة الانمائي سليم حمادة، كونه مشروع تابع لوزارة البيئة، فكان أن "أضاع يومين" من وقتها بحسب ما تؤكد، ومن ثم دعاها إلى تقديم طلب للحصول على هبة مالية لكي يشرح لها في ما بعد ما عليها أن تفعل بهذه الهبة، من خلال جمعية موجودة في الأردن. إلا أن الهبة لم تأتِ، وتقول سامانتا "أنها أساساً لم تكن تريد أي هبة"، متسائلة: "أمن المعقول أن يأتي حل وزارة البيئة بالطب مني بتعبئة طلب للحصول على مال لحماية الطيور؟"

وتتابع: "كتبت لمؤسسة "بيرد لايف انترناشيونال" وقلت لهم أن كل المال الذي يتم إرساله إلى لبنان لا يستخدَم بشيء، وأن الطيور تقتل كل يوم بالمئات".

وفي وقت يدفع فيه الناس حول العالم مئات وآلاف الدولارات للسفر إلى أفريقيا لرؤية طائر اللقلاق وغيره من الطيور الكبيرة والرائعة، تجري اليوم في لبنان مذابح بحقهم. وبدلاً من أن يكون وطننا مشهوراً بهذه الطيور، تحوّلت معاملته لها إلى نقطة سوداء عنه لدى الإتحاد الأوروبي. ويحذر أبي راشد من أنه "إذا لم يتخذ أي إجراء اليوم، فسنكون حتماً أمام كارثة في موسم هجرة الخريف"، داعياً "لعدم التحجج بالظروف السياسية والأمنية كون هذا الموضوع بات استراتيجياً في العلاقات بيننا وبين دول أوروبية".

ويبقى الأمل في ألا تبقى الدولة بحالة التأمل في موسم هجرة الربيع الذي "ما زال في عزّه"، وبأن تأخذ الإجراءات اللازمة منعاً لتكرار مشاهد قتل هذه الطيور المحمية حول العالم.