يتمّم البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي زيارته إلى الأراضي المقدسة رغم كل الإعتراضات والتحفظات التي برزت حول دلالاتها وانعكاساتها السياسية، ما يعكس حرص البطريرك على هذه الزيارة التي تستمر حتى الثلاثين من الشهر الجاري، حيث يبقى في الأراضي المقدسة بضعة أيام إضافية بعد مغادرة البابا فرنسيس، متنقلا بين الأراضي الفلسطينينة والأراضي المحتلة ما سيجعله تارة بحماية الأمن الفلسطيني وطورًا بحماية الأمن الإسرائيلي.
تنسجم هذه الزيارة مع أداء درج عليه البطريرك الراعي منذ اعتلائه السدة البطريركية وتمثل بزيارات شتى قام بها إلى مختلف المناطق اللبنانية ودول العالم من الغرب إلى الشرق، ولعل أكثر ما يعادل زيارة الأراضي المقدسة كسرًا للتقليد، الزيارة التي كان قد قام بها البطريرك الراعي إلى سوريا في شباط من العام الماضي، والتي أثارت بدورها جدلا كبيرا لإنهائها مقاطعة مارسها سلفه البطريرك مار نصر الله بطرس صفير لبلد أرهق نظامه لبنان بوصاية استمرت ثلاثين عامًا، فكانت زيارة الراعي إلى سوريا الأولى لبطريرك ماروني منذ العام 1943 حين زار البطريرك الراحل أنطون بطرس عريضة دمشق خلال فترة الإنتداب الفرنسي، قبيل استقلال لبنان عن فرنسا.
ولا شك أن هذه الزيارة إلى الأراضي المقدسة تشكل حدثًا جريئا وغير مسبوق في تاريخ الكنيسة المارونية، قد يجعلها تطغى من حيث الأضواء والمتابعة الإعلامية على زيارة الحبر الأعظم، التي تؤكد الأوساط الكنسية أهميتها الخاصة أيضا على صعيد العلاقة بين الكنيستين الأرتوذكسية والكاثوليكية كون زيارة البابا فرنسيس تأتي في ذكرى خمسين سنة على اللقاء التاريخي الذي جمع في العام 1964، البابا بولس السادس مع بطريرك القسطنطينية أتيناغوراس، والذي ترك نتائج إيجابية على صعيد المسيرة المسكونية والعلاقات بين روما والقسطنطينية.
تبلغ نسبة المسيحيين في الأراضي الفلسطينية المحتلة (إسرائيل) 2،2%، إذ يُقدر عددهم بحوالى مئة وأربعين ألفا من بينهم عشرة آلاف ماروني؛ ويؤكد النائب البطريركي العام المطران بولس صياح والذي كان راعي أبرشية الموارنة في الأراضي المقدسة لمدة ستة عشر عامًا، أن عدد هؤلاء إلى ارتفاع بعدما شجعت الأوضاع المستقرة للمسيحيين إلى بقاء شبابهم في أرضهم والزواج والإنجاب بدل البحث الدائم عن الهجرة. أما في الأراضي الفلسطينية فلا تتجاوز نسبة المسيحيين واحدًا ونصفًا في المئة، بما يُقدر بستين ألف مسيحي من بينهم ألف ماروني. ويعاني هؤلاء من الأوضاع الإقتصادية والأمنية الفائقة الصعوبة في هذه المناطق والتي تدفعهم للإنتقال إلى مكان آخر. وفي الأردن يبلغ تعداد المسيحيين حوالى مئتي ألف من بينهم ألفا ماروني، كان قد أسس لهم المطران صياح رعية تضم كنيسة ومركزًا رعويًا.
ويؤكد صياح في حديث خاص لجريدة اللواء أن المسيحيين من الطوائف كافة في الأراضي المقدسة، سواء كانوا موارنة أم كاثوليك ولاتين أم أرثوذكس، متحمسون جدا وفرحون لزيارة البطريرك ويعكسون ذلك في تواصلهم المتعدد الأشكال مع الصرح البطريركي ومطالبتهم بشمولهم بمحطات الزيارة، التي ستعرّج على القدس وبيت لحم ويافا وبيت ساحور وكفربرعم وعكا والجش والناصرة وعسفيا وحيفا. ولمحطة كفربرعم أهمية خاصة، فهذه الرعية مارونية مهجرة منذ العام 1948، وقد حصلت على حكمين من المحكمة العليا في إسرائيل لعودة الأهالي إلى منازلهم وممتلكاتهم إلا ان الدولة الإسرائيلية لم تنفذهما. وستكون مناسبة القداس الإحتفالي الذي سيرأسه الراعي في كنيسة كفربرعم الصامدة فرصة ليطالب الراعي بعودة الأهالي المشتتين بين حيفا والناصرة والجش.
ويوضح المطران صياح الذي يرافق البطريرك الراعي أن الدخول إلى الأراضي المقدسة سيتم بجواز سفر فاتيكاني، آسفا «للجدل القائم حول عزم البطريرك رئيس أكبر كنيسة كاثوليكية في الشرق على استقبال البابا في أرض واقعة تحت سلطة البطريرك الروحية، ورغبته في تفقد أبنائه هناك ودعمهم وحثهم على الثبات في أرض ليسوا أقلية فيها أو طارئين عليها، بل هم أصحاب أصيلون لهذه الأرض المقدسة التي انطلقت منها المسيحية قبل ألفي سنة». ويلفت صياح إلى أنه من غير الجائز لأحد أن يعطي بكركي أمثولات في الوطنية، فكلنا يعلم أن البطريركية المارونية كانت في أساس قيام لبنان، ولكن المؤسف أن هناك أشخاصًا يريدون وضع البطريرك في خانة معينة!
شهد الجدل الواسع الذي أطلقته زيارة البطريرك حول معنى المقاطعة والتطبيع مع إسرائيل تفاوتًا في الآراء؛ فالبعض رأى في الزيارة دعمًا إيجابيًا للشعب الصامد في مواجهة الإحتلال، وتأكيدا على أن القدس ليست إسرائيلية إنما لها رمزية إسلامية ومسيحية كبيرة ويجب التذكير دومًا بهويتها من خلال مبادرات شتى كمبادرة البطريرك الجريئة والمتقدمة، إلا أن آراء أخرى صبت في خانة إبداء الخشية والتحفظ على زيارة البطريرك الماروني إلى الأراضي المقدسة حيث سيكون تحت حماية الأمن الموجود في المناطق التي سيتنقل فيها، وغالبيتها مناطق يسيطر عليها جيش العدو الإسرائيلي، مع العلم بأن هذا التحفظ لا ينطبق على زيارة الحبر الأعظم الذي يتجاوز الطابع الدولي لدوره الحدود فضلا عن أن الفاتيكان يقيم علاقات دبلوماسية قديمة مع إسرائيل. إنما اللافت أن الإنتقادات العنيفة لزيارة البطريرك اقتصرت على وسائل إعلامية مقربة من حزب الله، الذي لم يرفع من جهته حدة خطابه، الأمر الذي فسّره مقربون منه بالحرص على عدم إحداث شرخ إضافي في البلد.
إهتمام خاص بالفارين إلى إسرائيل
من المحطات البارزة في زيارة البطريرك اللقاء مع اللبنانيين الذين فروا إلى إسرائيل بعد التحرير قبل أربع عشرة سنة. ويبلغ عدد هؤلاء ثلاثة آلاف شخص من الطوائف اللبنانية المختلفة وغالبيتهم من الموارنة البالغ عددهم حوالى ألفين وخمسمئة شخص. ويتوزع معظم هؤلاء على ثلاثة مراكز تقع في نهاريا وطبريا وكريات شمونة، في وقت أن بعضا آخر إندمج في الرعايا المارونية في مدن مثل حيفا والناصرة والجش. وإذا كانت العودة إلى لبنان باتت صعبة على كثيرين منهم بعدما التحق أولادهم بالمدارس والجامعات الإسرائيلية، فإنهم رغم ذلك يريدون العودة إلى وطنهم. والمقصود بهؤلاء ليس الذين لعبوا أدوارًا أمنية خطرة، بل الأكثرية الذين ظُلموا وأجبرتهم الظروف على الذهاب إلى إسرائيل أو الإلتحاق بجيش لبنان الجنوبي لتحصيل لقمة العيش.
والمفارقة أن الجميع يؤيد عودة هؤلاء، وقد ورد ذكر قضيتهم في التفاهم بين التيار الوطني الحر وحزب الله إلا أن هذه العودة لم تتحقق، لا باتت أكثر تعقيدا وحساسية مع مرور السنوات، ولعل اللقاء مع الراعي يقلل من مرارتهم هم الواقعين بين فكي كماشة العنصرية الإسرائيلية بحق كل من ليس يهوديا والتشدد في لبنان حيال كل من وطأت رجله أرض إسرائيل، ولو تحت وطأة الظروف.
البابا في لبنان رهن الظروف
في أي حال، فإن الجدل القائم حول زيارة الراعي لا يلغي أهمية زيارة الحبر الأعظم الذي يحيي في لقائه مع البطريرك المسكوني برتلماوس الأول في القدس ذكرى خمسين سنة على اللقاء التاريخي بين سلفيهما بولس السادس وأتيناغوراس، والذي أطلق حوارًا يهدف إلى إنهاء التباعد بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية. ولا يستبعد عارفو البابا أن يقدم على مبادرة غير منتظرة تسهم في تعزيز مسار الوحدة بين الكنيستين، فضلا عن تأثير قدومه إلى المنطقة إيجابًا على تثبيت الحضور المسيحي في الشرق، علمًا أن عدم شمول لبنان في برنامجه يعود إلى الأوضاع الأمنية المتردية التي سادت في الأشهر الأولى من السنة.
وحتى نضوج الظروف وتحقيق الزيارة المنشودة فإن البطريرك الراعي يقوم تحت وابل السجالات والآراء المتناقضة باستقبال الحبر الأعظم على أرض مقدسة إنما تحفل بشعوبها تعقيدات السياسة وتقاسم النفوذ والحسابات والتوازنات والمصالح الخارجية والخاصة.