شهدت عدة دول في المنطقة في الأيام الأخيرة إجراء انتخابات رئاسية أو شعبية، وهذه ظاهرة من ظواهر الديموقراطية التي يحتاج إليها العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه.

وسنحصر الحديث في هذا المقال على حدثين بارزين: الانتخابات الرئاسية في مصر وسورية مع اختلاف الظروف والمواقع.

في مصر عاد الرأس والرئيس المشير عبد الفتاح السيسي، هذا العسكري «المتمدن» الذي يرى فيه كثير من المصريين انه «عبد الناصر الجديد» الآتي إلى إنقاذ مصر مما اخترقها من أفكار ومبادئ حركة الإخوان المسلمين خلال توليها رئاسة مصر لسنة، حيث لم تتمكن غالبية الشعب المصري من التعايش مع الطروحات التي أصر الرئيس السابق محمد مرسي على فرضها، فاجتاحت التظاهرات الشعبية شوارع وميادين القاهرة الرئيسية مطالبة بإنهاء حكم الإخوان. ولأول مرة في مصر وربما في غيرها يتظاهر الشعب بالملايين مطالباً بالتغيير ويأتي رجل عسكري بحجم المشير السيسي ليتولى ترجمة مشاعر تلك الجماهير وصولاً إلى قيادتها في الانتخابات الأخيرة. وغني عن القول إن مصر واجهت وتواجه ظروفاً اقتصادية قاسية وصعبة، إضافة إلى القلق الأمني السائد منذ فترة، لذا فإن أمام الرئيس المشير السيسي العديد من المهام والتحديات الدقيقة والصعبة لإعادة مصر إلى أجواء انتظامها العام.

وفور الإعلان عن فوز السيسي بالرئاسة، انهالت علية التهاني، لكن أبرزها جاء من خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، حيث لم تكن التهنئة بروتوكولية فحسب، بل حملت الكثير من المضامين والمعاني الهامة. ولعل في استعادة بعض ما ورد في رسالة الملك عبدالله بن عبدالعزيز معرفة مقدار الدعم السعودي المقدم لـ»مصر الجديدة»، إذ دعا الملك «إلى مساعدة مصر لتخطي أزمتها الاقتصادية»، محذراً كل من يتخاذل عن تلبية هذا الواجب وهو قادر مقتدر فإنه لا مكان له غداً بيننا إذا ما ألمت به المحن وأطاحت به الأزمات».

وناشدت التهنئة السعودية «كل الأشقاء والأصدقاء الابتعاد والنأي بأنفسهم عن شؤون مصر الداخلية بأي شكل من الأشكال، مضيفةً: «إن المساس بمصر يعد مساساً بالإسلام والعروبة وهو مساس أيضاً بالمملكة العربية السعودية وهو مبدأ لا نقبل المساومة عليه أو التعايش حوله تحت أي ظرف كان».

وكان لدى الملك عبدالله النصيحة التالية الموجهة إلى الرئيس المصري الجديد: «ليكن صدرك رحباً فسيحاً لتقبل الرأي الآخر مهما كان توجهه وفق حوار وطني مع كل فئة لم تلوث يدها بسفك دماء الأبرياء وترهيب الآمنين». ومضى في رسالة التهنئة واصفاً ما شهدته مصر في الفترة الماضية وما خلفته من فوضى بأنها «فوضى الضياع والمصير الغامض الذي استهدف ويستهدف مقدرات الشعوب وإنهاء استقرارها». وانتهى إلى وصف انتخاب المشير السيسي بأنه «يوم تاريخي ومرحلة جديدة من مسيرة مصر الإسلام والعروبة».

إنها أثمن هدية يمكن أن تقدم لرئيس مصر الجديد خاصة مع دعوة خادم الحرمين الدول المقتدرة إلى الاجتماع السريع وتقديم كل مساعدة ممكنة لمصر في هذا الظرف المصيري.

فأول ما تحتاج إليه مصر الآتي: الاقتصاد والأمن. وهما نتاج الظروف الصعبة التي واجهتها خلال السنتين الأخيرتين، وهذا ما يمثل التحدي الأكبر لــ «المنقذ الجديد» عبد الفتاح السيسي.

فماذا عن الانتخابات في سورية؟ هناك واحدة من العادات العربية السيئة وهي الإفراط والغلو في المبالغة سواء في «التعظيم» أو «التحطيم»! وكلا الصفتين يحتمل الخطأ. ذلك أن تيار «العظيم» بالغ في توصيف تجديد الولاية للرئيس بشار الأسد بالقول إن الانتخابات التي أجريت قبل أيام كانت «العرس الديموقراطي» بينما لجأ التيار الآخر إلى توجيه أقذع التهم للنظام واصفاً ما جرى بأنه «مسرحية سخيفة».

أليس من موقف وسطي بين النقيضين؟

القليل من الواقعية يدعو إلى ملاحظة الآتي: إن سورية ليست في حال طبيعية لإجراء انتخابات تحدد توزيع القوى الشعبية القائمة، لكن مع الجانب «المسرحي» من الانتخابات لا يمكن تجاهل ما كشفت عنه المشاهد التلفزيونية من السوريين الذين شاركوا فيها رغما عنهم أو بإرادتهم.

وبعد مرور حوالى أربع سنوات من الحرب المدمرة، ألم يحن الوقت لتبيان الخيط الأبيض من الأسود؟. وذلك في ضوء اعتراض ورفض فريق من السوريين لأسلوب «الإرهابيين المحترفين» في تدمير الحياة في سورية أينما استطاعت هذه العناصر الإرهابية أن تصل؟

ومن دون التوغل كثيراً في متاهات «الوضع السوري»، قد يكون من المفيد التوقف عند بعض التساؤلات:

أولاً: هل عادت سورية إلى لبنان في ضوء ما جرى في يوم «الحشر الانتخابي» والحشود التي زحفت بكل تنظيم إلى مبنى السفارة السورية في اليرزة (ضواحي بيروت) لانتخاب الرئيس الأسد حيث اعتبر فريق من اللبنانيين ما جرى بأنه استفزاز واضح لمشاعر البعض في الأسلوب الذي جرى التعبير عنه؟.

ثانياً: هل إن التجديد للأسد يعني التجديد لمواصلة الحرب أيضاً؟ أم إن النظام يمكن أن يذهب إلى مؤتمر جديد في جنيف ليفرض على المعارضات السورية شروطاً «فوقية» جديدة للحل؟

ثالثاً: بعيداً عن كل أنواع المكابرة أكد النظام أنه باق (شاء من شاء وأبى من أبى) وأن كل ما جرى خلال السنوات المنصرمة، يستوجب البحث عن مقاربات جديدة مختلفة عن كل ما سبق لإنهاء «الحالة السورية»؟

وفي التصريحات التي أدلى بها وزير الخارجية الأميركي جون كيري خلال زيارته الخاطفة لبيروت، شدد أكثر من مرة على «ضرورة اعتماد الحل السياسي» للوضع المأزوم في سورية. ومثل هذا الكلام يعني سقوط كل الشعارات التي رفعت لتغيير النظام. وفي العادة تبدأ حلول الأزمات الكبرى بالجانب السياسي، حتى إذا فشلت كان التحول إلى الخيارات الأخرى ومنها الخيار العسكري. لكن ما جرى ويجري هو عكس المنطق والتيار.

كذلك لوحظ أن الوزير كيري وبعد لقائه الرئيس تمام سلام وجه «نداء مباشراً إلى الأطراف التي تساند سورية وخص بالذكر روسيا وإيران وحزب الله»، ولعلها المرة الأولى التي تتم فيها مخاطبة أميركية لـ»حزب الله» في شكل مباشر أو غير مباشر.

رابعاً: إذا فاز الرئيس بشار الأسد بولاية جديدة وخرج من تحت الأنقاض والركام، ولو تحت شعار «دمرت سورية لكن انتصر النظام»، فما موقف الدول الداعمة لمناهضي نظام الأسد ولمصلحة من إبقاء هذا النزيف بكل تداعياته الخطرة على العديد من دول الجوار السوري والتي تحتضن الآلاف بل الملايين من الرعايا السوريين الهاربين من الجحيم الأمني المتفجر في مختلف المحافظات السورية؟

وأما ما يتعلق بأزمة النازحين السوريين إلى لبنان فماذا عن الوعود التي تلقاها لبنان من الدول المقتدرة لمنحه ما يواجه به الأعباء التي تثقل كاهل لبنان واللبنانيين على اختلاف توجهاتهم؟

لقد كان الوزير كيري «سخياً» عندما أعلن عن تخصيص بلاده حفنه من ملايين الدولارات لمساعدة النازحين، لكنه يعرف جيداً أن هذا المبلغ زهيد جداً مقارنة بالأعباء الثقيلة لأزمة النازحين. وفضل السيد كيري أن يوجه أقذع التهم إلى الانتخابات السورية حيث قال: «إنها غير موجودة، وإن سورية قبل انتخاب الأسد وبعده هي نفسها». وهذا كلام للاستهلاك الإعلامي، لكن ماذا عن الوعود التي قطعها الرئيس باراك أوباما بتوجيه «عمل تأديبي ضد النظام السوري» ثم حدث التراجع الدراماتيكي المعلوم من جانب الإدارة الأميركية الحالية لتصل الأمور إلى ما هي عليه؟

خامساً: مع الإعلان عن فوز الأسد بولاية جديدة لسبع سنوات، من هي الجهات والمراجع التي شملها هذا «الفوز»؟

إن هذه الأطراف محددة وواضحة. فالذي جرى يعتبر «إنجازاً للخط المقاوم» والذي يضم إيران وحزب الله من حيث المبدأ. كذلك يعتبر «الانتصار السوري» مكافأة لروسيا على مواقفها الداعمة للنظام وهي التي أمنت له التغطية الكاملة على الصعيد الدولي وجنبته كل بيانات الإدانة من مجلس الأمن الدولي.

لذا فالداعم الروسي يحق له أن يدعي انتصاراً لمواقفه وسياساته منذ اندلاع شرارة الأحداث في سورية، وبالتالي العمل على تحقيق «طموحات روسية أكبر» على الصعيد الإقليمي في مواجهة الغرب الأميركي، وبخاصة في الفترة الحالية في أوكرانيا وفي غيرها من المواجهات القائمة بين الشرق والغرب في استعادة للحرب الباردة.

سادساً: هل من علاقة بين انتخاب المشير السيسي في مصر وتجديد الولاية للرئيس الأسد؟

السؤال مشروع ومطروح... إذ ينقل عن الرئيس المصري الجديد أنه «يتعاطف» مع الرئيس السوري في العمل على مقاومة الإرهاب، ومثل هذا التقارب يطرح السؤال الأكبر: هل يتمكن الرئيس السيسي من إقامة جسور جديدة من التعامل على الصعيد الإقليمي لمواجهة الخطر المشترك ألا وهو الإرهاب المدمر؟

وبعد...

إن القليل من الواقعية من شأنه أن يفرح قلب الإنسان العربي الذي يعيش وسط حالة من عدم الاستقرار هي الأسوأ في تاريخ الشعوب العربية المعاصرة، وباسم هذه الواقعية نقول: هل يعني عدم الاعتراف بالانتخابات السورية ولا بنتائجها أن يُلغى وجود بشار الأسد ونظامه على ساحة الأحداث العربية؟

وفي المقابل: أي حل يرمي إليه نظام الرئيس الأسد بعد كل ما جرى حتى الآن؟ هل سيكتفي بحكم الأشلاء المتناثرة في كل مكان من الجغرافيا السورية، ومن تحت الأنقاض والركام؟

المطلوب بشكل عاجل وآني دراسة جدية لإعادة تموضع كل الأطراف المتدخلة والمتداخلة بما يجري في سورية والخروج بمقاربات جديدة تعمل على وقف الحد من الخسائر على غير صعيد، وإلا فآلة الحرب لن تشبع نهماً إلا بحصد المزيد من الأهوال والتقاتل بين هذه الحشود من العصابات ذات الجنسيات المتعددة.

ومع عودة الذين شاركوا في القتال عبر هذه العصابات إلى دولهم في العالم الغربي خاصة، أدركت هذه الدول مخاطر عودة المقاتلين والمرتزقة إليها ممن يحملون جنسيتها. فلا «الحرب الكونية» ستنتهي طالما أن ممولي هذه التنظيمات على اختلافها تقدم الذخائر المادية والبشرية.

وصدق من قال: السوريون يأكلون الحصرم وأهل الجوار السوري يضرسون ويعانون.