ما بعد اغتيال رئيس الحكومة السابق رفيق الحريري في شباط 2005 ليس كما قبله، فلبنان في ذلك النهار دخل مرحلة جديدة من عمره لم تنته حتى يومنا هذا. شكل اغتيال الحريري بداية مشروع كبير جدًا يُحضَّر للبنان والمنطقة، وهو ما يوافق عليه جميع اللبنانيين رغم الاختلاف في رؤيتهم لهذا المشروع، ليبقى الثابت الوحيد أنّ أبرز أهدافه هو إشعال الفتنة السنية الشيعية في المنطقة برمّتها.
يُعتبر تنظيم "فتح الإسلام" من أبرز الأدلة على دخول الإرهاب إلى لبنان تحت ستارٍ ديني، والمعارك التي خاضها هذا التنظيم ضدّ الجيش اللبناني في نهر البارد لا تزال ماثلة في الأذهان، ومن بعده ظهرت في الشارع اللبناني حركات ارهابية متطرفة متعدّدة منها "كتائب عبد الله عزام" التي تبنت عددًا من التفجيرات الارهابية في الاشهر الماضية، حركة أحمد الاسير التي انتهت بمعركة شنّها ضد الجيش اللبناني، إضافة إلى دخول عناصر إرهابية أجنبية الى لبنان تعمل تحت لواء "جبهة النصرة" و"داعش". وإذا كان صحيحًا أنّ كلّ هذه الجماعات حتى الآن لم تستطع استمالة الشارع السني اللبناني، إلا أنّ ما يجري في سوريا والعراق يُنبئ بمتغيّرات خطيرة محتملة قد يصل مداها إلى لبنان، هذا إن لم تكن قد وصلت اصلا وشاهد اللبنانيون بعضًا منها في عاصمة الشمال طرابلس.
وقف الصحافي محمد سلام في ساحة النور بطرابلس عام 2011 مخاطبًا الجماهير الغاضبة من تسمية نجيب ميقاتي رئيسًا للحكومة بدلا من سعد الحريري، وقال لهم: "الله أكبر، خرج المارد السنّي من القمقم، أمطري يا سماء، زغردي يا نساء". يومها، أنزل رئيس الحكومة السابق سعد الحريري سلام عن المنبر باتصال هاتفي، وتنصّل تيار "المستقبل" من تصريحه، ولكنّ ما جرى في طرابلس بعد الاحداث السورية ونشوء خلايا وجماعات متطرفة في المدينة أظهر بحسب مصدر متابع أنّ "القمقم" الذي تحدّث عنه سلام هو تيار "المستقبل" واعتداله. ويقول المصدر لـ"النشرة": "خرج بعض شبان طرابلس من تحت عباءة تيار المستقبل وانتسبوا لجماعاتٍ متطرّفة، بعضها ينصب العداء لـ"المستقبل" نفسه، وساهم خروج الحريري من لبنان والضعف المالي بالتيار بزيادة أعداد هؤلاء، وباتت طرابلس اليوم غير محصورة بسلطة تيار المستقبل أو تيار رئيس الحكومة الأسبق عمر كرامي أو ميقاتي بل أصبح للجماعات المتطرفة فيها كلمة مؤثرة". وويلفت إلى أنّ "التطرّف ليس محصورًا بمذهب معين فهو موجودٌ بنسب متفاوتة في كل مكان، إلا أنّ القدرة على لجمه تختلف بين مكان وآخر حسب قدرة الأحزاب على ذلك".
ويبدي المصدر نفسه تخوّفه من انتقال ما يجري في سوريا والعراق إلى لبنان تحت شعار "استفاقة المارد السني"، لافتا النظر إلى أنّ "القاعدة" تستفيد من هذا الشعار في مناطق تواجدها لإظهار نفسها أمام "السنة" بأنها المنقذ، وهنا تكمن الخطورة بحسب المصدر، الّذي يذكّر بما جرى في صيدا إبان حركة أحمد الاسير وكيف لم تلق حركته تجاوبًا من قبل أهالي صيدا بالرغم من وجود بعض الاستثناءات، تمامًا كما حصل مع "فتح الاسلام" في نهر البارد وكيف تخلى عنها أكثرية سكان المخيم ومحيطه. ويضيف: "لا يمكن التكهن بما ستكون عليه الحال مستقبلا إذا نفذت "داعش" ما تهدّد به مثلا من دخول إلى لبنان، ولكن بالتأكيد لن يقف سنّة لبنان إلى جانب الارهاب والتطرف، إلا أنّ هذا لا يلغي مسؤولية الاحزاب السنية المعتدلة في توجيه المجتمع السني".
وفي هذا السياق، يؤكد عضو المكتب السياسي في تيار "المستقبل" النائب السابق مصطفى علوش أنّ القاعدة "السنية" العامة في لبنان غير قابلة للتطرّف، معتبرًا أنها "لو كانت كذلك لاتجهت نحو التطرف بأكملها بسبب اعتداءات حزب الله المتكررة". ويوضح علوش، في حديث لـ"النشرة"، أنّ "أكثر من 95 بالمئة من المسلمين السنة في لبنان يمارسون نوعاً من الاسلام المحافظ البعيد عن أيّ تطرف". ويرى علوش أنّ احتمال تسرّب الإرهاب إلى لبنان عبر الحدود هو أمرٌ واردٌ إلا أنه لن يجد قاعدة داعمة له. أما بالنسبة لوضع طرابلس، فيؤكد علوش أنّ الجهات الامنية تملك كامل المعلومات التي تحتاجها لتطويق أو للقضاء على أيّ مجموعة متطرّفة. ويقول: "التطرف عدوّ تيار المستقبل ونحن حذرنا حزب الله مرارا بأن التمادي بتطرفه سيفتح الباب امام تطرف أخر"، ويشدّد على أنّ الخاسر الاكبر من التطرف في أيّ مكان هو المعتدل.
إنّ الصراعات الطائفية لم تلد مع السنّة والشيعة، فحرب البروتستانت والكاثوليك دامت لعقود طويلة، ومن هنا يتبيّن أنّ التطرف يولّد تطرفًا آخر وهو ليس محصورًا بفئةٍ معيّنة، ولا يوجد أيّ طائفة قادرة على منع التطرف متى استشرى فيها أو بطائفة مختلفة عنها، ويبقى الحوار بين الحضارات والطوائف هو الحل الأمثل لابعاد التطرف عن نفوس البشر.