هل حقاً يتعامل رافضو إعطاء موظفي القطاع العام حقوقهم المعترف بها في سلسلة الرواتب والأجور، وفق مفهوم اقتصادي ومالي، كما يدّعون، أم أنهم في حقيقة الأمر يتصرفون انطلاقاً من مشروع سياسي - اقتصادي يرفض في المبدأ فكرة وجود حقوق للعمال والموظفين ومحدودي الدخل، ويريدون إعادة عقارب الساعة إلى زمن كان فيه كل العاملين والموظفين مجرد "مياومين"، يحصلون على أتعابهم في حدودها الدنيا، وما خلا ذلك هو "مكرمات" و"صدقات" من رب العمل؟!
في هذا المجال، تؤكد أوساط في "لجنة التنسيق النقابية" ألا شيء جديداً على صعيد استمرار الخلاف بين الكتل النيابية حول إقرار السلسلة، حيث يترأس النائب فؤاد السنيورة؛ رئيس كتلة "نواب المستقبل"، جبهة معارضي إقرار السلسة، بحجج عدة، آخرها محاولة ربط إقرارها، بعد تخفيض نسبها، بزيادة واحد في المئة على ضريبة الـ"TVA"، التي تطال الفقراء أكثر من غيرهم، ولا تميّز بين أصحاب الدخل المحدود من مالكي الثروات، بما يشير إلى أن ما جرى الحديث عنه من وعود أو أجواء تفاؤل ما هو إلا تقطيع للوقت، وبالتالي فإن الأسبوع المقبل سيشهد سلسلة تحركات مطلبية، من بينها إقفال الموظفين لمداخل الإدارات الرسمية والوزارات بأجساهم.
وترى أوساط متابعة أن تاريخ معارضي السلسلة لا يشهد لهم بالحفاظ على المال العام، بل على العكس من ذلك، هم الذين أدخلوا البلاد في نفق الاستدانة، تحت ستار "وعود الربيع" المعروفة، التي كانت تراهن على "سلام" بين لبنان والعدو "الإسرائيلي"، يتم على إثره "إعفاء" لبنان من الديون، مكافأة له على خضوعه لهذا المشروع.
وتعتبر الأوساط أن النظام اللبناني برمته، القائم على مجموعة من "المزارع الطائفية"، هو بالأساس ضد فكرة الدولة الحقيقية، وضد فكرة وجود "قطاع عام"، إلا من حيث الشكل، لأن وجود الدولة ينفي شرعية "الفيدراليات" الطائفية القائمة، التي تتفق فيما بينها على تقاسم "جبنة الحكم" في ما بات يعرف بـ"المحاصصة"، وهذا الأمر ليس جديداً، ففؤاد شهاب سبق أن سمى السياسيين بـ"أكلة الجبنة"، وكمال جنبلاط اعتبر لبنان "دولة مزرعة"، ولم يكن ينقص هذه المزرعة إلا ظهور "الحريرية السياسية" في بداية تسعينيات القرن الماضي، والتي حملت معها إلى لبنان نسخة من أكثر المشاريع الرأسمالية توحشاً، كان من أهدافها تحويل لبنان إلى "جنة ضريبية" للمستثمرين، يجْنون فيها الأرباح ولا يدفعون ضرائب، وكانت شركة "سوليدير" إحدى مظاهر هذه السياسة الاقتصادية؛ التي تأخذ من البلد بأرخص الأسعار، ولا تعطيه شيئاً سوى التجارة السياسية والفتن الطائفية.
وتربط الأوساط بين موقف الرئيس السنيورة من السلسلة، ومواقف الحريرية السياسية في زمن "الوعود الربيعية"؛ عندما كانت تستهجن تحديد حد أدنى للأجور في لبنان، وترفض وجود مؤسسة للضمان الاجتماعي، وكانت ترى في ذلك تعطيلاً للاستثمار، وعاملاً لا يشجع المستثمرين على القدوم إليه.
هذا الموقف المعادي لفكرة الدولة الحقيقية والراعية لشعبها ينسحب على معظم أعضاء الطبقة السياسية الحاكمة، فسياسة الهدر والصفقات والسمسرات هي صفة عامة لحكامه، وتحطيم المؤسسات الرسمية وتفريغها أمر تساهم فيه كل "الإقطاعيات الطائفية" لحساب مؤسسات الطوائف وزعمائها، وما تعرّض له التعليم الرسمي طوال العقود الماضية نموذج وشاهد على هذا الاستكلاب من جانب الرأسمال المحمي من الطوائف، ولصالح زعمائها، حيث بات منصب "وزير التربية" حكراً على أصحاب المؤسسات التعليمية الخاصة، أو المحسوبين عليها، ومعظمها مؤسسات تابعة للطوائف؛ إسلامية كانت أو مسيحية، ولطالما عبّر أصحاب هذه المؤسسات عن امتعاضهم من تدخُّل الدولة في التعليم، وكانوا يقولون "لتعطنا الدولة الأموال التي تصرفها على التعليم الرسمي، ونحن نتولى مهمة التعليم"، وهذا ما تحقق عملياً لجهة محاربة التعليم الرسمي وتشويه صورته، بعدما كان التعليم الخاص سابقاً للراسبين المطرودين من المدرسة الرسمية، فكان أن أعطي موظفو الدولة أموالاً ليعلّموا أولادهم في المدارس الخاصة، كما جرى تحطيم التعليم الابتدائي والتكميلي، وألغيت الحضانات، والآن جاء دور التعليم الثانوي، ومن بعده الجامعي، لأن المطلوب ألا تبقى مؤسسات رسمية تجمع اللبنانيين، ومثلما طُرد الفقراء من وسط بيروت التجاري، وباتوا غرباء عليه، وهو الذي كان يجمع اللبنانيين من كل المناطق والفئات، لن تبقى مستشفى أو مدرسة أو مؤسسة رسمية تجمعهم بصفتهم "لبنانيين"، ليتسنى لمؤسسات الطوائف على اختلافها استيعابهم، باعتبارهم "أبناءها"، وهو الأمر الذي تتلطى خلفه الحملة المستعرة ضد الإدارات الرسمية وموظفيها، والتي تقف خلف رفض تصحيح أجورهم بما يتناسب مع تدني قدرتها الشرائية، وما يحكى عن فساد، المسؤول عنه هم السياسيون، لأن من يمارس الفساد هم أزلامهم ومحاسيبهم، وليس الموظف الفقير والكفوء الذي ليس لديه إلا الدولة حامياً وراعياً.