ليس من باب الصدفة أن تشتعل المنطقة من سوريا إلى العراق ولبنان وليبيا وسائر الدول الاسلامية، كما أنها ليست مصادفة أن تتزامن كلّ هذه التطورات مع إعلان واشنطن الحرب على الارهاب وممارستها الضغوط العنيفة على الدول العربية والغربية للانضمام إلى هذه الحرب وتشكيل جبهة عريضة لتحقيق توازن بين المجموعات المسلحة من جهة والدول المستهدفة من جهة ثانية، وهذا مشروع أميركي بريطاني مُعَد منذ عقد من الزمن ولم يعد خافيًا على أحد في ظل انكشاف الساحات العربية برمتها ما عدا المناطق المحصورة والضيقة المحيطة بمنابع النفط، في مشهدٍ يستنتج منه دبلوماسي شرقي أن العالمين العربي والاسلامي دخلا في صراعات مذهبية وإثنية وعرقية طويلة المدى لا تنتهي إلا باعادة رسم حدود جيوسياسية للمجموعات المتصارعة.

ولعلّ ما يعزّز هذا الاعتقاد هو عمل واشنطن المستمر والمستميت للابقاء على توازنات عسكرية هشة لا تسمح لأيّ فريق بتسجيل انتصار مطلق على خصومه، بل تبقيه في الميدان وفق منظومةٍ معقدةٍ من طرق الدعم والتمويل وآخرها تمويل الادارة الاميركية للجيش السوري بشرط دخوله على الخط العراقي لمحاربة "داعش" انطلاقا من الحدود السورية العراقية، وذلك بعد تنفيذ الطيران الحربي السوري غارات على تلك الرقعة الجغرافية المتداخلة بين البلدين تحت انظار العراق وتركيا ودولة الاسلام في العراق والشام نفسها.

غير أنّ الأمور لم تعد بهذا الغموض بعد أن أعلنت ​الدولة الكردية​، وإن كان بشكل غير مباشر، عن حدودها النهائية بضم كركوك النفطية بما يسمح لها بالاكتفاء الذاتي والانفصال عن الحكومة المركزية العراقية التي كانت تعترف أصلاً بالكيان الكردي من خلال دعم "البشمركة" والتواصل معها من الناحيتين العسكرية والسياسية وحتى المالية، اضافة إلى الاقرار بدور رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البرزاني.

وقد دفع هذا التطور غير المفاجئ بدبلوماسي شرقي إلى طرح علامات استفهام حول موقف كلّ من تركيا وإيران وما اذا كانتا ستعمدان إلى تصعيد الموقف السياسي والعسكري بوصفهما متضرّرتين من الخريطة المستجدة، فالخلاف التركي الكردي التاريخي لم ينته بعد، إضافة إلى أنّ ضمّ كركوك الى الدولة الكردية سيحرم حكومة أنقره من امتيازات نفطية كانت تعوّل عليها لإعادة اقتصادها المتردي إلى ما كان عليه عشية اندلاع الحرب السورية وانخراطها بمشروع إسقاط النظام "الأسدي" وذهابها إلى أبعد الحدود في ذلك طمعًا بمكاسب سياسية واقتصادية ذهبت بطبيعة الحال إلى خصومها التقليديين، فيما الثانية قد تصل جراء هذا التطور الى نقطة اللاعودة على أساس أنها لن ترضى بإسقاط مشروع الهلال الشيعي الممتدّ من إيران إلى لبنان بعد أن حقق ما حققه من تقدم وصل إلى حدود قياسية من النجاح.

في الموازاة، توقف الدبلوماسي عند جرعة الدعم التي حصل عليها الجيش العراقي من خلال النجاح في الحد من انفلاش "داعش" أولا ومن ثم الذهاب إلى أبعد من ذلك لاعادة السيطرة على مدينة تكريت وهي تشكل نقطة ارتكاز معنوية واستراتيجية لقدامى البعثيين الداعمين للتنظيم المدرج على خانة الارهاب، ما يعني أنّ واشنطن باتت تمسك بالعصا العراقية من طرفيها بعد أن فقدت السيطرة ولو بشكل جزئي على التداعيات السورية. بيد أنّ الأيام والأسابيع المقبلة ستكشف ما اذا كان النظام السوري يعمل على استعادة سوريا كما كانت قبل سيطرة المسلحين على أجزاء واسعة منها لانشاء دولتهم أو أنه سيكتفي بتأمين العاصمة دمشق والشريط البحري الممتد الى اللاذقية وطرطوس عبر القلمون وحمص.

وسط هذه التطورات المتسارعة التي تنذر بخريطة جديدة للمنطقة تتضمّن حتمًا عمليات اقتسام النفوذ والمصالح الحيوية، يقبع لبنان على رصيف الانتظار بعد أن أعلنت "داعش" عن ضمه إلى دولتها المفترضة في مشهدٍ يدلّ على أنّ واشنطن تعمل بالتوازي بين الحرب على الارهاب واعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في المنطقة.