يحتاج القلم الى كثير من الجرأة وكثير من الحذر في آنٍ واحد، ليخوض في موضوع الطوائف والمذاهب، لناحية دورها وموقعها، في تركيبة نظامنا السياسي.

منذ تاريخ الاستقلال ـ وربما قبله ـ حُكي وكُتب كثيراً عن لبنان «الصيغة»، وعن لبنان التعدّد والتنوّع والتكامل، ضمن وحدة الأرض والشعب… هكذا رُسمت صورة لبنان، من دون أن ننسى التعريف به بكونه أكثر من وطن: إنه «رسالة»!

يمكن أن نضع «الصورة» في إطار الاعتراف بـ»خصوصية» هذا الوطن. وفي هذه الحالة، يكون كلّ ما حُكي وكُتب جميلاً وصحيحاً ومدعاة للتباهي والاعتزاز، لكن عند هذا الحدّ ينتهي الوجه الذي نحبّ، ويبدأ ما لا نحبّه في واقع نظام الدولة.

ثمة في صيغة نظامنا السياسي ما يسمّى بحقّ «الأنصبة المحفوظة» للطوائف والمذاهب على صعيد السلطات الدستورية وإدارات الدولة ومؤسساتها، سواء كانت تلك الأنصبة لحظت بالنص الدستوري أو كانت عرفاً توافقياً، كما في حالة رئاسة الجمهورية.

من خيوط هذا الواقع حيك نسيج المجتمع اللبناني، وبفعله تحوّلت الخيوط الى حبائل قاسية فأنتجت صراعات وانقسامات بلغت حدّ الصدامات، تبعاً لطبيعة الظروف المحلية والإقليمية والأدوار الموثّرة للعواصم الغربية.

لم يتنبّه اللبنانيون الى كون الكلام الكثير على الوحدة الوطنية لا يعني أنهم يتحدثون عن نظام ديمقراطي يعيشون في ظلّه أو يتوقون إليه! حسبوا أنّ «شعار» الوحدة أرضاً وشعباً ومؤسسات يغني عن الارتقاء الى ديمقراطية حقيقية، معلّق وجودها على مفاهيم واضحة وشروط محدّدة!

التساوي بين المواطنين أو المساواة بينهم بفعل المواطنة على صعيد الحقوق والواجبات هو الوجه المعبّر عن العافية الديمقراطية للأنظمة السياسية.

كان مفترضاً أن تعني المساواة أيضاً تمتّع كلّ لبناني بحق الطموح الى جميع المناصب والمواقع، بمعزل عن طائفته أو المذهب الذي ولد فيه، غير أنّ سقف الطموح محدود بهذا الجانب من نظامنا السياسي، وهنا يظهر المشهد السلبي للنظام وتبدأ الشكوى منه عبر كلام يتحدث عن «مظالم» تلحق بأحد المكوّنات الأساسية لمجتمعنا الأهلي هو المكوّن السنّي.

بعض هذا الكلام يعني في حالات التطرّف والغلوّ أن لأهل السّنة في لبنان «امتيازات» من النوع الذي يجعلهم خارج متناول القانون، بحيث لا تجوز ملاحقة مرتكب ولا توقيفه ولا التحقيق معه ولا اتهامه بجرم، لا لشيء سوى لكونه أحد أبناء هذه الطائفة الكريمة!

بحكم هذه «النظرية» تشنّ الحملات على المؤسسات العسكرية والأمنية بضراوة، فتبلغ على لسان أحد رجال الدين حدّ تهديد الدولة بإعلان النفير الجهادي ضدّها وتحذيرها من الوصول الى ما لا تحمد عقباه!

في السياق عينه، نسمع كلاماً مؤدّاه أنّ «تعاطي» الأجهزة الأمنية مع أبناء الطائفة الكريمة هو بمثابة «اللعب بالنار»، وأنّ هذا اللعب لا يمكن السكوت عنه، ولذلك فإنّ ردود الفعل لن تكون مثلما كانت في السابق، وقد أعذر من أنذر!

هكذا، في خضّم الموجة الإرهابية التي تجتاح مناطق من العاصمة ـ وأخرى من لبنان ـ، يُستهدف الجيش اللبناني بكلام قاسٍ يبلغ حدّ اتهام تلك المؤسسة النقيّة، وسواها من المؤسسات، بالانحياز الطائفي، وتطلق الدعوات الى الخروج منها ثم الخروج عليها.

أولئك هم المحرّضون المدافعون عن الإرهابيين وعن العمليات الانتحارية التي حصلت في الآونة الاخيرة والتي لم تلقَ لدى نواب ورجال دين ما يستحق إصدار بيان بإدانتها، بل راحوا يبرّرون ارتكابها ويجدون لمرتكبيها الأعذار! قد تكون صدرت «فتاوى» في هذا الشأن، وقد تكون الفتاوى آتية، وفقاً لما تقوله التوّقعات!

مقابل هذه التصريحات النارية، سمع اللبنانيون من سماحة المفتي الشعار، مفتي طرابلس والشمال، كلاماً هادئاً وراقياً وهادفاً يعبّر فعلاً عن الكثرة من أبناء طائفته أجمل تعبير، ويستحق في حساب الوطن أعمق التقدير.

فيما ينبغي للبنانيين عامة التنبّه للأخطار التي ينتجها خطاب التطرّف والانعزال، ينبغي بخاصة للكثرة الساحقة من أهل الوعي والاعتدال والصلاح في الطائفة السنيّة الكريمة، التصّدي لمروّجي الفتنة في هذا الوطن.

ينبغي للبنانيين جميعاً الاقتناع بأنّ ما من مذهب ديني يمنح حصانة لأتباعه في مواجهة الدولة، أو يشكلّ «امتيازاً» لأحد لمواجهة العدالة وأحكام القانون.

بكلام بسيط، وشديد الوضوح، يقتضي التسليم بأنّ هذه القاعدة تسري على جميع طوائف لبنان وأبناء مذاهبه، بحيث لا تكون للمسيحي حصانة حيال الدولة والقانون، ولا للمسلم، ولا للموحّد الدرزي.

رغم أنف الراغبين، لم ولن يصبح لبنان يوماً «إمارات» أو «دويلات» ذات هوّية طائفية أو مذهبية… وحدها الهوّية الوطنية تسود بكلّ ما لها من حرمة ومهابة. وبحكم هذه الهوّية نكون مواطنين متساوين في حماية الدولة العادلة، ونحمي هذا الوطن بصيغته الفريدة، الجامعة سائر بنيه.