منذ مئتين ويومين ولبنان بلا رأس ولا رئيس للجمهورية، وليس في الأفق ما يشير إلى إمكانية حدوث أي اختراق نوعي يفسح في المجال لحدوث توافق بين مختلف مكونات التركيبة اللبنانية على تنافرها. وعن اختيار «رئيس توافقي»، ما زال البحث البيزنطي العقيم قائماً حول معنى الرئيس التوافقي.

صحيح أنها ليست المرة الأولى التي يواجه فيها لبنان حالة الشغور في منصب الرئاسة. فقد حدث موقف مشابه مع انتهاء ولاية الرئيس إميل لحود، حيث بقي بلا رئيس ما يقرب من سبعة أشهر، حتى أدى «مؤتمر الدوحة» إلى الاتفاق على انتخاب الرئيس ميشال سليمان.

لكن هذه المرة تبدو الأمور أكثر خطورة وتعقيداً. وفي الأسبوع الأخير كان التمييز بين رئيس الجمهورية، ورئاسة الجمهورية، وهذا ما طرحه رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون عندما قال: «إذا لم يكن بالإمكان انتخاب الرئيس دعونا نركز على الرئاسة»، الأمر الذي طرح موضوعاً جدلياً وشائكاً يتعلق بأصول انتخاب الرئيس الجديد، وهو ما فسرته بعض الأوساط كأنه دعوة إلى مؤتمر «طائف جديد» لإعادة النظر في صلاحيات رئيس الجمهورية التي سلبت منه قبل ربع قرن.

وفي سياق متصل تعود بنا الذاكرة إلى الستينات عندما كان الرئيس شارل حلو في سدة الحكم، وقد عرف عنه أنه الرئيس المثقف والمفكر، وكان الحوار يدور حول الخلافات على انتخاب رئيس يخلفه. وقد قال لي: «المهم أن تبقى الجمهورية أولاً كي يتسنى انتخاب رئيس جديد لها». إذاً، الهواجس ليست جديدة، لكن الظروف الحالية تمثل خطورة واضحة على تركيبة الجمهورية أو ما يعرف بـ «الصيغة اللبنانية»، وهذا ما يطرح بعض الوقائع التي رافقت الحياة السياسية خلال ربع قرن. وبالعودة إلى تلك الوقائع نعثر على الآتي:

إن سلسلة الحرب الأهلية التي اندلعت شراراتها في 13 نيسان (أبريل) 1975 انتهت عند مشارف التسعينات بانعقاد «مؤتمر الطائف» بموجب «خلطة» إقليمية ودولية كُرّست في الطائف حيث توالت اجتماعات النواب، أو من تبقى منهم، على مدى 24 يوماً واكبتُها عن قرب وواكبت المخاض العسير الذي سبق ولادة «صيغة الطائف».

وبدا في حينه وكأن المطلوب أولاً من الطائف، التوصل إلى وقف تام لإطلاق النار فيما ما كان العماد عون يعارض ما تم التفاهم عليه. واليوم وبعد ربع قرن تبدو الظروف كأنها تشبه عجزاً لبيت الشاعر المتنبي: «فيك الخصام وأنت الخصم والحكم». فاتفاق الطائف الذي بدا كأنه الحل للأزمات اللبنانية المتتالية، هو نفسه اليوم يتعرض للمطالبة بالتعديل أو بالتبديل: تعديل بنود الاتفاق أو الذهاب إلى صيغة توافقية جديدة من شأنها ملاءمة واقع الوطن الآن. والسبب أن اتفاق الطائف لم ينفذ معظم بنوده، وما نفذ تم استنسابياً من جانب «حكم الوصاية السورية». وأدت التجربة إلى حديث بعض الأوساط السياسية عن ضرورة تعديل بنود الاتفاق كما وردت من دون اجتزاء واستنسابية، فيما تسعى أطراف أخرى إلى «طائف جديد»، وهو لا يلقى، حتى الآن على الأقل، تأييد الفرقاء كافة. وهذا أحد الطروحات التي تمضي في تمزيق لبنان واللبنانيين وتكريس تباعدهم، ولو ليس على مبادئ طائفية، وهذا أمر جيد كي لا يغرق الوطن في معارك طائفية تلغي وجود لبنان كوطن لجميع أبنائه. هكذا يراعى بينهم توزيع المحاصصات الطائفية، علماً أن فريقاً مسيحياً يمثله العماد عون يدعو إلى «رفع الضيق والحرمان» الذي لحق ببعض المسيحيين، ويرى واقع الأمر مناسبة للتغيير الدستوري، وهو ما لا تنظر إليه الطوائف الإسلامية (والسنّة بالتحديد) بعين الرضا.

وفي التخطيط للمدى البعيد يبدو أن ما عرف بـ «الصيغة» وعاش عليها لبنان منذ استقلال 1943، باتت تحتاج إلى تعديل في ضوء كل ما تعرض له عبر السنين من أزمات وحروب. والتعديل المطلوب يجب أن يطمئن أطراف «الصيغة» كافة إلى أن موقعهم في الوطن يتماشى مع حجم تمثيلهم الشعبي، كي لا تبقى حال الشكوى من الغير قائمة لدى البعض. على أن بلورة هذا الطرح سيحتاج إلى وقت طويل للاتفاق عليه وسط الأجواء المحمومة المخيمة، وآخرها الإرهاب المتمثل باختطاف عدد من العسكريين اللبنانيين في الجيش وقوى الأمن الداخلي من جانب «داعش» و «جبهة النصرة»، وهو ما قض مضاجع اللبنانيين على اختلاف توجهاتهم، وهم يشعرون بالتضامن الكامل مع أهالي المخطوفين المطالبين باستعادة أبنائهم، بخاصة أن الخاطفين قطعوا حتى الآن رؤوس ثلاثة أو أربعة من المختطفين. ويدور الخلاف بين أهل الحكم حول طريقة التعاطي مع هذه الأزمة بما يوفق بين استعادة المخطوفين ومقايضتهم بمعتقلين في سجن رومية، على رغم خطورة التهم الموجهة إلى هؤلاء. فكيف السبيل إلى إنقاذ الموقف مع الحفاظ على الحد الأدنى من هيبة الدولة أو ما تبقى منها، وهذا ما يحرص عليه رئيس الحكومة تمام سلام مع عدد من الوزراء، فيما تؤيد بقية الوزراء تلبية مطالب الخاطفين بقطع النظر عن أي اعتبار آخر. وقد ساهم انتشار المعلومات عن وجود خلافات بين أعضاء «خلية الأزمة»، بانتشار المزيد من الإحباط لدى أهالي المخطوفين والمرابطين منذ شهور في ساحة رياض الصلح وعلى مقربة من السراي الحكومية.

وبعد...

أولاً: لا شك في أن «نجم» أحداث العام الذي يستعد للرحيل، هو «الإرهاب»: «داعش» و «النصرة» وغيرهما. تتعدد التسميات والإرهاب واحد. لكن الأسلوب الاقتحامي الذي أقدم عليه «داعش» أثار موجه رعب في نفوس الجميع، وحتى الآن لم يهتد «العالم بأسره» إلى استراتيجية موحدة تقضي على أخطار إرهابيي العصر. فما يعرف بـ «التحالف الدولي» فشل على رغم غارات مقاتلات دوله في شكل يومي، وليس ما يشير إلى نجاح هذا الأسلوب أي «الحرب من فوق». والمطالبات تتزايد داعية إلى ضرورة خوض حرب برية، لكن ما من طرف يريد التورط في نوع كهذا من الخطط الاستراتيجية.

ثانياً: في ما يتصل بأزمة انتخاب رئيس جديد للجمهورية اللبنانية، بعض من كلام واضح ومحدد يجب أن يقال. صحيح أن منصب الرئاسة يعود إلى المسيحيين وأكثر تحديداً إلى الموارنة، لكن أي رئيس سينتخب سيكون رئيساً لجميع اللبنانيين، وهذا يعني أن مسألة اختيار رئيس جديد مسؤولية جماعية، لذلك فإن القول: «اتفقوا أيها المسيحيون ونحن نوافق» ليس سليماً ولا يجب أن يكون صحيحاً. فاتجاه انتخاب رئيس جديد إلى هذا المنحى المذهبي والطائفي يعكس عن قصد أو غير قصد «أفكاراً تقسيمية» تتعارض مع دعوات الوحدة التي تنطلق من المراجع التي يتعلق بها اختيار الرئيس الجديد.

ثالثاً: قد يكون توافد بعض الموفدين الغربيين إلى لبنان عاملاً مساعداً على خلق بيئة جديدة تساعد على اختيار الرئيس العتيد، لكن لا يمكن الطلب من الموفدين أن يكونوا لبنانيين أكثر من اللبنانيين. ثم إن فكرة انتظار وصول الموفدين لحل الأزمة المستعصية يؤكد للبنانيين أولا وللعالم كله، أننا فشلنا في تجربة حكم أنفسنا بأنفسنا، ولا ينفع كثيراً تقاذف التهم لتغطية إخفاقاتنا. ومن الأمور التي تبعث على الخجل أن الأمور سائرة في الوطن وكأن لا أزمة فيه، حتى كاد الناس ينسون أن الجمهورية بلا رئيس ولا رأس.

وهناك ما كشفت عنه دراسة استطلاع للرأي في الآونة الأخيرة (الدولية للمعلومات) من أن 25 في المئة من اللبنانيين هاجروا (وغالبيتهم من الشباب)، وأن 35 في المئة ينتظرون تأشيرات السفر إلى بلاد الناس الواسعة. فما الموقف الذي يجب اتخاذه لوقف هذا النزيف الفكري والبشري المثير لعملية إفراغ الوطن من عقوله؟

رابعاً: إن العالم لم يهتد بعد إلى الأسلوب الناجع لمكافحة الإرهاب، لذلك تعد الدول الكبرى مجموعة دراسات تتصل بالجانبين اللوجيستي والعملي، وكلها تشدّد على أن حملة مواجهة إرهاب «داعش» تحتاج إلى ما لا يقل عن ثلاث سنوات في أكثر الدراسات تفاؤلاً، ما يعني أن الوضع المضطرب في المنطقة باق على حاله إلى أن يقضي الله أمراً...

وفي المقابل تم هذا الأسبوع في طهران تجديد «العلائق الوثيقة» بين الثلاثي إيران والعراق وسورية، وكان شعار هذه الاجتماعات مواجهة الإرهاب!

خامساً: وبالعودة إلى ما انتهت إليه اجتماعات فيينا، أؤكد بكل مسؤولية أنه تم التوافق على بعض الأمور بين الجانبين الإيراني والدولي. ولكن الأطراف آثرت إبقاء الإنجاز طي الكتمان حتى موعد استئناف المفاوضات المقبلة بعد حوالى سبعة أشهر. وما يلاحظ، إعلامياً على الأقل، أن الحملات المتبادلة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانيه والغرب الأميركي والأوروبي لم تعد بتلك الحدة السابقة. لكن العالم اليوم في «مرحلة عض الأصابع» قبل الاجتماعات الأخيرة، وكل فريق يسعى إلى إظهار قوة موقفه.

لكن، يبقى على المراهنين على أي تفاهم ألا يتوقعوا حلولاً سحرية لأزماتهم الإقليمية أو الدولية، لأن لدى كل من الجانبين سلم أولويات يختلف عن الآخر. وعلى المنتظرين في القطار اللبناني أن يتواضعوا قليلاً وأن يدركوا أن لبنان ليس في مرحلة متقدمة في سلم الأولويات الإيراني والغربي. والسؤال: كيف يمكن حماية لبنان في المرحلة الآتية؟