بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، وصلّى الله على سيدنا ونبينا محمد، وعلى آله الطيبين الطاهرين.

لأن الميلاد يشكل وصل السماء بالأرض، فهذا يعني أن مشيئة الله تريد من الإنسان أن يكون وفياً لحقيقته الربانية، وصادقاً مع وجوده، ومخلصاً- بقيمه وسلوكه- للهدف الذي يؤكد معنى الأرض من السماء، والدنيا من الآخرة. وهو عين ما قررته تعاليم المسيح(عليه السلام) والنبي محمد(ص) بخلفية أن الله لا يرتضي مطلق إنسان، بل الإنسان الذي يعيش أدب السماء، كما لا يرتضي مطلق عقل سياسي، بل العقل السياسي الذي يستثمر الدولة والموارد والطاقات الكونية والإجتماعية بالإنسان, بمعنى أن أطروحة الله بالإنسان تريد أن تستفز فيه الخير والمحبة والنخوة وعون الآخر كجزء من ثمن الأبدية ورضاها في لحظة اللقاء.

لذا قال المسيح في تعاليمه:(توبوا إلى الله، وأحبّوا الناس، وارحموهم)، وقال النبي محمّد في تعاليمه: (تمسكنوا وأحبّوا المساكين، وجالسوهم وأعينوهم، وارحموهم، وبثّوا الخير في الناس، وأفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وانبذوا الشر وحولوا دونه), بخلفية أن مراد الله بالإنسان يبدأ بتثمين الذات الفردية والإجتماعية، وتنميط الأدب السياسي بميزان أخلاقي وجودي لا يرتضي فساداً أو باطلاً أو خيانة, ولا يقبل لأفراده أن يعيشوا عقلية المجنون والجنون الذي يحرف الإنسان عن هدف القيامة، وهو نفس الميزان الذي لا يرتضي زعامة سياسية، أو عقلاً تشريعياً يجافي الإنسان ووجعه وحاجته وظروفه الصعبة.

لذا، فإن الدولة بعقل المسيح والنبي محمد تعني ضامن قيم ومشروع خدمة وجودية، لا يجوز أن يضيع فيها إنسان أو مواطن, ويلزم منه أن الخائن لا محل له بالسلطة، وكذا السفيه والشره ومن يستغل الصالح العام لمصالحه الشخصية والعائلية والمناطقية الكادرية وشبه ذلك, لأن الإنسان -بعرف السماء- هو المخلوق الذي جيّر الله له كل شيئ، والسلطة هي الأداة النظامية التي تضمن خدمة القيم الاجتماعية والطاقات والموارد الطبيعية لهذا الهدف الضامن للإنسان, على أن التعبير السماوي ظل يحرّض الإنسان على الزهد، بما يشطر منه حقيقة كماله الأخروي, وليس أخطر على الإنسان عند الله من خيانة أمانة الناس, لذا قال المسيح: (أفلح الزاهد)، وقال النبي محمد: (ما أفلح من غش الناس، أو غدر بهم، أو غلبه هواه).

واللافت أن لوح المسيحية والإسلام ألزم الخليقة أن تتفكّر في الخلق، وتعيد استنطاق العلل، وفيه قال النبي محمد:(تفكروا في الخلق, تفكروا في ملكوت السموات والأرض... إعقلوا العجائب على الحجة والبرهان.. تفلحوا).

وبين هذه وتلك أراد المسيح والنبي محمد إنتاج الإنسان الكامل الذي يتعامل مع الآخرين من باب أبوته أو أخوته، ومع الدولة من باب أنها أمانة الله، والثروة على أنها زاد قيامته.

ولأن العالم اليوم يعيش قطيعة مخيفة مع السماء، ولأن صوت الله كاد يخمد في قلوب أكثرية هذا العالم، فإن الكيانات السياسية تعيش عقدة الأنانية والربح الذاتي واحتكار الأسواق ونهب الطموح كمركز مؤثر بخريطة ناس هذا الكون. لذا، فإن الموت والقتل والتجويع والفظاعات الدولية والمحلية أضحت عنوان مظلومية الإنسان في الأرض, هذا الإنسان الذي عملت البرجوازية السوقية والآلة الإعلامية والوحشية الإعلانية على تجهيله وتسليعه وتظهيره كجزء من الأرباح الذاتية في زمن تتحكم به حضارة العورات والمجون والعقول السياسية المستبدة، لدرجة أن تعاليم المسيح والنبي محمد تحولت تراثاً مهجوراً في كتاب، وفكراً منبوذاً في عالم المال والسوق والأدب والأخلاق وإدارة قيم الناس والجماعة المدنية والبرامج السياسية, وهو نفسه ما نشكو منه في لبنان.

لذا، فإننا نصر على دولة عدل أخلاقي وشراكة سياسية ورعاية اجتماعية لا ابتزاز فيها ولا كانتونات، وبلا شخصنة أو زواريب خلفية للشركات العائلية والمشروعات الحزبية، ولا استئثار أو استهتار على مستوى مصادرة الإنسان أو مكونات البلد المذهبية والروحية، لأن التاريخ علّمنا أن خسارة بيروت تعني خسارة الجنوب والجبل، كما أن خسارة المسيحي تعني هزيمة المسلم، وخسارة السني تعني أن السكين أضحى على مذبح الشيعي, ومعها فإننا نحذر من تظهير مقامرة الأمم في هذا البلد، على طريقة متاريس وخصومات سياسية، وخلافات بينية، وطموحات إقليمية تدفع البعض للعب بالورقة التكفيرية، وبناء مربعات إرهابية، من شأنها اغتيال مستقبل البلد، ونحر الشراكة التاريخية بين المسلم والمسيحي, والشيعي والسني. المطلوب أن نكون لبنانيين بحجم الشراكة التاريخية، ومسيحيين بحجم إصرار المسيحي على مشاركة المسلم، وسنيين بقدر تصميم السني على أخوة الشيعي. لأن لبنان عاش وما زال على الشراكة وحسن النوايا، فإن انكسرت هذه وتلك، انتهى لبنان.

أخيراً: في الميلاد يعود النور السماوي ليغسل قلب الإنسانية بيد الله، شرط أن يبقى الإنسان إنساناً.. لا أن يتحول شيطاناً.. كذا في السياسة والمال والأخلاق والكادر والنظرية وعقلية الإجتماع المدني.... لمن تدبّر معنى يد الله من الإنسان.

* المفتي الجعفري الممتاز