موجع جدًّا الجرح المفتوح في بلدة قلب لوزة في جبل السمّاق في إدلب. مجموعة من الأبرياء يذبحون على يد "جبهة النصرة" بصورة جماعيّة ولا يزال ثمّة من يعتقد بأنّ الحادث فرديّ. وكأنّنا نعود بهذا التوصيف بالذاكرة إلى ما حصل سنة 1860 في جبل لبنان من مجازر رهيبة وقد عزا بعضهم وبتسطيح كامل أسبابها إلى أن ولدين ينتميان إلى الطائفتين المارونيّة والدرزيّة قد اختلفا على لعبة سخيفة، فتطوّر الخلاف ليصل إلى مجزرة من هذا النوع. وبعد التدقيق بالعمق التاريخيّ والسياسيّ بالأسباب اكتشف المؤرخون آنذاك أنّها جاءت وفق خطّة استراتيجيّة أدّت بعد ذلك إلى نظام المتصرفيّة. القياس المنطقيّ لما حصل في قلب لوزة في جبل السمّاق، دلّ في جوهره على أن المجزرة الرهيبة حصلت وفق تخطيط مسبق، شاء منفذّوها والمخطّطون لها، أن ينطلقوا من إدلب وجسر الشغور إلى الساحة السوريّة ككلّ، واستطرادًا الساحات المرتبطة بالصراع في سوريا وعليها، بهدف إفراغ بعض المناطق من مكوّنات مذهبيّة أقلويّة، فيسهل قضم تلك المناطق عبر سلخ تلك المكوّنات المذهبيّة منها وإحداث الخلل الفادح، ليصار بعد ذلك الى أسلمتها بالكامل بالمنطق الداعشيّ والنصراويّ، كما حصل في الرقّة والقامشلي على سبيل المثال لا الحصر.

يتمّ كلّ ذلك وفقًا لقراءة تركيّة احتوائيّة بطبقتين: طبقة أولى مختصّة بتراجع الرئيس التركي ​رجب طيب أردوغان​ وكأنّه يحاول بذراعه المتطرّف إعلان سيادته على الأرض. وطبقة ثانية، تشاء برؤية استراتيجيّة إقامة مناطق عازلة وتثبيتها على الأرض وبخاصّة على الحدود السوريّة-التركيّة. وهذا عينًا ما ينطلي على ما يحدث في السويداء في منطقة تعتبر استراتيجيّة بالكامل لقربها من الحدود السوريّة الأردنيّة وبالتحديد من درعا، وبمحاذاة الحدود السوريّة-اللبنانيّة وبخاصّة تلك البقعة الممتدّة من البقاع الغربيّ إلى مزارع شبعا، والأخطر أنّ ما ينطلي على تلك المنطقة يتماهى مع إرادة إسرائيليّة واضحة، تشاء إنشاء منطقة عازلة متاخمة للجولان المحتلّ تحرسها على وجه التحديد "جبهة النصرة" المرتوية من الينابيع الإسرائيليّة.

المستغرب، وبحسب بعض الأوساط، أنّ ينطلق رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب ​وليد جنبلاط​ بتقييم سياسيّ لما حصل في البلدة المذبوحة، معتبرًا بأن المسألة محض شخصيّة. وتظهر تلك الأوساط رؤية مستندة إلى تسلسل الأحداث بسياق منطقيّ، تشي بأنّ الخطر وجوديّ يطال معظم المكونات في سوريا والمشرق مسيحيّة وإسلاميّة بمذاهبها المتنوّعة. والحرب وبهذا المعنى ليست على النظام، بل هي على سوريا وهويّتها وبالتحديد على هويّة المكوّنات على أرضها. الرهان على إسقاط النظام عند بعضهم يتماهى مع إرادة كثيرين يجهدون حتى تسقط سوريا، ومتى سقطت سقط المشرق برمّته، وسقط معه لبنان بمكوّناته. مشكلة بعض السياسيين اللبنانيين أنّهم يعبّرون عن الواقع السياسيّ بحسابات ارتبطت بصراع أخرويّ، وكأنّهم ينشدونه محطّة للثأر والانتقام، فيما هو ذاهب باتجاه عمليّة إبادة واضحة تستهدف معظم ما يسمى بالأقليّات في المشرق العربيّ، برهانات ثبت حتّى قيام تلك السّاعة بأنّها عبثيّة، وستنعكس عبثيّتها على مصالحهم.

لكنّ الطامة الظاهرة، أنّ الانقسام قد استكان في بنية الطائفة الدرزيّة الكريمة واستوى على أرائكها. فبدت النظرة تجاه ما حصل، وعلى الرغم من الريبة الجامعة لكلّ الأطراف، مائلة نحو انقسام عموديّ بنيويّ، بين خطاب جنبلاط وخطابي رئيس الحزب "الديمقراطي اللبناني" النائب طلال أرسلان ورئيس حزب "التوحيد العربي" الوزير السابق وئام وهّاب. ويذهب مصدر عارف بعمق الصراع في سوريا، وعلى بيّنة من علاقة الطائفة الدرزيّة بسوريا، إلى التذكير بأنّ كلام وليد جنبلاط لم يعنِ هؤلاء بشيء. فهم يقاتلون إلى جانب الدولة، ومؤمنون بأهميّة بقاء سوريا، وهمّهم الكبير أن لا تسقط بلادهم في متاهات تقود الجميع إلى الهاوية وها قد بدأوا يسيرون نحوها. وذهب بعضهم في الداخل السوريّ للاعتبار بأن الحراك الذي يقوم به جنبلاط سواء في مداخلاته أو إيفاده من يذهب نحو تركيا لمعالجة الأمر، يسير في منطق الاستثمار والتموضع السياسيّ على حساب من يقاتلون في الداخل. ويعتقد بعض وجهائهم، بأن الكلام حول قضيّة درزيّة مجوّف بكلّ ما للكلمة من معنى. ذلك أنّ تاريخ الدروز في هذا المدى لم يكن انفصاليًّا بل هم جزء من هذا الكيان وهويّته، ويرون بأنّ الصراع غير محصور بإطار سنيّ-درزيّ، بل هو في حقيقته صراع بين قوى تكفيريّة معلّبة من المثلّث التركيّ-السعوديّ-القطريّ، وموجّهة بأهداف محدّدة، ووحدانيّة سوريا المنطلقة من تنوّعها وعروبتها.

جوهر الصراع هو في هذا التبويب الذي أريد له أن يكون فكان. معظم المكوّنات المذهبيّة في سوريا بل في المشرق كلّه مدركة أنّ الترتيب الذي وضع إنّما هو لرسم خطوط جيو-سياسيّة، في ذهن المخطّطين تقود حتمًا إلى نوع آخر من الساحات. غير أنّ الصراع وإن احتدم على أرض سوريا، وفي المواقع الحدوديّة في جوهر التخطيط وحراكه، ولكنّه لم يعد أطرافه يملكون القدرات التوظيفيّة لتأمين ممرّات لهم وأقنية تسعفهم لاقتناص الحصص والمكاسب عبر القوى التي رعوها ووجّهوها وأعطوها أن تسلك في المواجهة. لقد فقدوا تلك القدرات بعملية تراجعيّة واضحة وتدحرج كثيف بدأ يظهر من تركيّا إلى السعوديّة. الحرب في سوريا والمذابح التي ترتكب أديرت وكما قال الأمير طلال أرسلان بمال عربيّ واستطرادًا بسلاح عربيّ. لكن ما يجب فهمه وبدقّة وبحسب بعض المصادر، بأنّ وليد جنبلاط ينطلق إلى الموقع الخطأ في توجّهه اللحظوي إلى تركيا بعد تراجع أردوغان، وبتوصيف أجوف اعتبر بأنّ المسألة شخصيّة فيما هي أعمق من ذلك في موقع الدروز هم فيه أقلويّة. المسألة ليست محصورة في قرية قلب لوزة فوق جبل السمّاق، هي مسألة عامّة تتداخل فيها كل العناصر في القلب السوريّ، وصولاً إلى منطقة السويداء. ويسأل كثيرون في هذا الخصوص، أليس من تماه واضح بين ما حصل في قلب لوزة والمعارك في السويداء؟ ألا يعني هذا أنّ الطائفة الدرزيّة كالمسيحيين مستهدفة على الرغم من أنّ المسألة ليست بين الدروز ومحيطهم في جبل حوران، بل هي بين كلّ مكوّنات سوريا والقوى التكفيريّة المحاربة في الداخل وعلى الحدود ويبدو أنّ الهزائم قد بدأت تطالها في جبال القلمون وجرود عرسال؟ احتشاد القوى على أرض سوريا وبخاصّة وجود فيلق القدس مع قائده اللواء قاسم سليماني و"حزب الله" والجيش السوريّ، يكشف التحضير للمنازلات الكبرى في إدلب وجسر الشغور وصولاً نحو حلب، وجنوبًا نحو ريف دمشق. ويتمّ هذا على الرغم من التساؤلات المضنية عن أسباب سقوط المناطق، وهل ثمّة من استسلم أو ثمّة قلّة تنسيق بين القوى؟! ليس المهم الخوض في تلك الأسئلة، الأساس أن اللعبة بدأت قواعدها تتغيّر من تركيا إلى السعوديّة..

الارتجاجات على الأرض السوريّة طبيعيّة. ويعتقد باحث سياسيّ بأنّ ما حكي عن تقسيم فعليّ غير وارد، ولن يكون ثمّة حلّ سياسيّ من دون الرئيس بشار الأسد، وتلك معادلة باتت ثابتة عند الأميركيين والروس وعند معظم القوى المؤثّرة. وبحسب مصادر سياسيّة متابعة: على وليد جنبلاط أن يتشرّب تلك الرؤية المتراكمة بحالتها النوعيّة، لأنّه سينتظر طويلاً عند ضفّة النهر وبلا جدوى...