الوضع في سوريا والعراق مفتوح على المجهول. لم تعِش أوهام التسوية سوى أيام. فبقاء الأسد بقيَ هو المشكلة.

استنتجَ المتفائلون بتسوية في أيلول أنّ موسكو كان يهمُّها من مبادرتها ثلاثة أهداف متدرِّجة في الأولوية:

1- إلهاء المحور الإقليمي المعادي للأسد، ولا سيما تركيا والسعودية، بكلام التسوية، وكسب الوقت لتخفيف الضغط عنه في لحظة عسكرية محرِجة، خصوصاً في دمشق.

2- ضمان مستقبل الأسد السياسي في سوريا.

3- إضعاف «داعش» ورديفاتها، ومنع قيام كيانات إسلامية متطرِّفة على الحدود الجنوبية لروسيا، ما يثير شهية الشعوب المسلمة في الاتحاد الروسي إلى التطرّف وزعزعة الاستقرار.

ويتفاهم الروس مع الإيرانيين على الهدفين الأوَّلين. لكنّ التكتيك الإيراني في النظرة إلى «داعش» ورديفاتها مختلف. فمن جهة تريد طهران ضرب هذه التنظيمات التي تشكِّل إطاراً تنظيمياً للدينامية السنّية في وجه الدينامية الشيعية التي تقودها.

ومن جهة أخرى، هي تريد استثمار هذه التنظيمات للعب ورقة «الإرهاب»، مع الغرب. والشكوك جدّية حول دور لإيران وحليفها السوري في إنهاض بعض الجماعات السنّية المتطرفة و»تربيتها»، كما أنّ «فوبيا» الدويلات الدينية لا تقلق إيران بمقدار ما تقلق روسيا.

لذلك، تجد إيران أنّ مصلحتها الظرفية ليست في القضاء على «داعش»، بل في سيطرتها عليها. وهنا تلتقي مع الروس. وفي أيّ حال، لا تضارب في المصالح بين موسكو وطهران في سوريا، كما يعتقد البعض، بل هناك تباين في التكتيك جرى التفاهم عليه، وفي ضوئه انطلقت المبادرة الروسية.

وعلى خط موازٍ، تريد إيران استثمار اتفاقها النووي مع الأميركيين لتوسيع نفوذها الإقليمي.

وسواء كان الاتفاق يتضمن ملحقات سرّية تُتيح ذلك أم لا، فالواضح أنّ واشنطن باتت أكثر مجاهرة في القبول بدور إيراني في رعاية التسويات الإقليمية، وطبعاً باستمرار الأسد في سوريا المستقبلية.

فقد حاولت تركيا دائماً أن تتجنّب التورُّط العسكري المباشر في سوريا. وحافظت على حياد ظاهري، على رغم الدعم الخفي الذي قدّمته لـ»داعش» ورديفاتها. لكنها بدأت تنزلق عسكرياً بعد اتفاقها مع واشنطن على «محاربة الإرهاب».

ويستعدّ الأتراك لعملية عسكرية في سوريا، هدفها إقامة منطقة آمنة. وعملياً، هم يريدون بيع «داعش» لشراء الأكراد. ولذلك غضبت «داعش» ونفَّذت عملية سوروج وهدّدت ببلوغ اسطنبول. فهي أدركت أنّ أنقرة باعَتها للأميركيين مقابل تغطيتهم لضرب الأكراد.

يطمح الأكراد السوريون إلى وصل مناطق نفوذهم في الشمال. وقد استفزّوا تركيا عندما نجحوا في ربط القامشلي بكوباني، تمهيداً للتوجّه غرباً إلى البحر، بحيث يقع الشمال السوري بكامله في قبضتهم، مدعومين من أكراد العراق.

وهذا الكابوس أقلقَ تركيا بقوة، خصوصاً لِما لأكراد سوريا من علاقة طيّبة بواشنطن. ولذلك، يستخدم الأتراك اليوم اتفاقهم مع الأميركيين في الدرجة الأولى، لا لضَرب «داعش» بل الأكراد. وهكذا، انتهت الهدنة بينهم وبين حزب العمال الكردستاني في الداخل التركي. ومن المؤكد أنّ شهر العسل بين أنقرة وكردستان العراق سينتهي، وستواجه تركيا غَضبة 17 مليون كردي على أراضيها في لحظة إقليمية حسّاسة.

وإذ يستعدّ الرئيس رجب طيب أردوغان لانتخابات مبكرة، فإنّ أكراد تركيا سيتحالفون مع علويّيها وأحزاب اليسار والمعارضة، وقد لا يحظى «السلطان» العثماني بأكثر من 41% من الأصوات التي حقَّقها حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الأخيرة. وسيرتدُّ ذلك تحسيناً للعلاقات بين أكراد سوريا والأسد، وهي ليست سيئة أساساً.

وقد تدفع الحملة التركية على الطرفين السنّيين المتقاتلين في سوريا إلى هدنة الضرورة ومواجهة تركيا، فتصبح «داعش» أيضاً عامل اهتزاز لاستقرارها الداخلي. وسيستفيد الأسد من تلهّي «داعش» ورديفاتها والأكراد بمواجهة تركيا لتخفيف الضغط العسكري عنه. أمّا السعوديون فيُحاذرون أن يقعوا في مطبّ اليمن، على غرار المطبّ التركي في سوريا.

إذاً، ليس كلام التسويات سوى مناورة عابرة. ويجدر التفكير في المسار الانحداري العنيف الذي يشهده الوضع السوري- العراقي، وفي ما يكشفه الأميركيون علناً عن تقسيم العراق كـ»حلّ وحيد». وآخرهم كان رئيس الأركان المنتهية ولايته حديثاً ريموند أوبرنو. فربما هناك تكمن الخلفيات الحقيقية للأحداث، لا في الاستعراضات الجارية أمام الجمهور.