"التيّار الوطنيّ الحرّ" واحة نضال انكشفت للرأي العام اللبنانيّ والعربيّ، مذ أن كتب على رئيسه العماد ميشال عون النفي القسريّ إلى خارج وطنه، وبقي في المنفى الباريسيّ حتّى سنة 2005 لحظة عاد إلى لبنان وصنّف رئيس "اللقاء الديمقراطي" النائب وليد جنبلاط عودته بالتسونامي. منذ اللحظات الأولى للنضال، كان "التيار" حاملاً وطن الأرز على منكبيه بفرادته ومكنوناته، كما حمل القضيّة المسيحيّة في عمقها إلى جانب مسيحيين آخرين، وفهم بالعمق السياسيّ والفكريّ الاستراتيجيّ بأن التكوين اللبنانيّ ما كان له أن ينمو منذ لحظة ولادة دولة لبنان الكبير سنة 1920، لو لم يقل المسيحيون اللبنانيون الكبار "كن فكان"، وبمعنى آخر يكون لبنان بالمسيحيين أو لا يكون.

غير أنّ لصوق "التيار الوطنيّ الحرّ" بالفكرة التكوينيّة، لم يجعله منعزلاً بالمعنى المسيحيّ أو الوطنيّ عن كلّ المكوّنات الأخرى. ولم يتحجّر بالقوميّة اللبنانيّة المنغلقة في حروفيّتها، ولم يرتض التصاقها بالحيّز المسيحيّ الضيّق في الإطار الذي رسم خلال الحرب اللبنانية في بدايتها. فهو تيار سار في المسار الانفتاحيّ اللبنانيّ بهذه الخصوصيّة الفريدة للبنان، وقد نما في جذره من الرؤى الميثاقيّة الصافية بلا زيغ أو زغل. وقد خطّها العماد عون في لحظات المواجهة القصوى مع السوريين، حين لمس بترًا وقسرًا ودحرًا لتلك الخصوصيّة غير القائمة والمتمثّلة في أيّ بلد من بلدان العالم العربيّ، فواجه وقاتل وحاول التحرير ميدانيًّا، وحين نجح بالتحرير سياسيًّا وهو في منفاه رضي بالخروج من سلوكيّات الانعزال والعزل لمسيحيي لبنان بعد عودته، فتمشرقوا بسعي كبير منه بمواكبة فاتيكانيّة واضحة مع البابا السابق بنديكتوس السادس عشر.

الإيجابيّة الحاليّة أنّ التيار تجاوز مرحلة دقيقة على المستوى الداخليّ ظهرت بالانقسامات الشديدة القائمة في بنيته، وقد تطلّع الكثيرون على مرحلة انتخابات التيار كمنطلق لقضمه من الداخل. غير أنّ هذه الانتخابات، لا تعصمه من قراءة نقديّة ذاتيّة يتحوّل بها ومن خلالها من هالة المؤسّس إلى المؤسسة المولودة من رحم المؤسّس ولكنّها المؤسسة المتوثّبة نحو الحياة بديمومتها وسيرورة نضالها وديناميّة حراكها. وبقراءة مبسّطة للتيار، إنّ التسويّة التي أرساها عون وعمل عليها امين سر تكتّل "التغيير والاصلاح" النائب إبراهيم كنعان بجمعه في منزله المرشحين المتنافسين وزير الخارجية ​جبران باسيل​ والنائب آلان عون تبقى مخرجًا آنيًّا قد يتأسّس عليها المستقبل. لكنّها غير كافية إذا ما رام الجميع إلى التحوّل الفعليّ من حالة إلى أخرى تتجاوز ذاتية الشخص لتتوزّع في إطار مجموعة مهجوسة بالهمّين الوطنيّ والمسيحيّ في بنيويّته وميثاقيّته.

بعض الأوساط المراقبة أثنت على التوافق بين باسيل وعون، ولكنّها ترى بأنّ المحطّة المقبلة والأساسيّة والضروريّة بعد عملية الانتخاب، أن يتجه "التيار الوطنيّ الحرّ" للوقوف على أطلال العمل الحزبي وإطلالاته بتقييم ونقد واستشراف، فسوف يكتشف بأنّ المدى اللبنانيّ خال من العمل الحزبي الحقيقيّ الملموس في الدول الراقية بالتجارب الديمقراطية سواء في علاقة الحزب بالدولة أو ببقيّة الأحزاب. فهل يليق به أن يتلوّث بهذا الفراغ القاحل كالليل الحالك؟ لم تتجاوز الأحزاب اللبنانيّة بصيغها الطائفيّة ولبّها القوميّ في بعض من جوانبها مؤسسيها على الإطلاق، بل لا تزال لصيقة بهم حتى السكر والانبهار ومن ثمّ الانفجار بانقسامات بنيويّة كارثيّة. فحزب "الكتائب" لا يزال حزب المؤسس وليس المؤسّسة بالوراثة على الرغم من المحاولات الخجولة مع منير الحاج أو جورج سعادة وكريم بقرادوني. و"الحزب التقدميّ الاشتراكيّ" لا يزال حزب المؤسس والعائلة من كمال جنبلاط إلى وليد وربما تيمور، و"الحزب القوميّ السوريّ" حين قتل زعيمه أنطون سعادة انقسم على ذاته، وهكذا "الحزب الشيوعيّ". "القوات اللبنانيّة" بعد اعتقال قائدها سمير جعجع تشتتت وتماسكت بعد خروجه، ولكن ماذا بعد؟ معظم الأحزاب اللبنانيّة لا تزال أحزاب الأشخاص المؤسسين وفي حال الوفاة أو الغياب القسريّ، تنقسم الأحزاب حتى التلاشي أو الإمّحاء المطلق وتلك هي الخطورة الفعليّة التي تواجهها الأحزاب اللبنانيّة في ظروف التحولات الكبرى.

الخوف كلّ الخوف أن يلقى التيار المصير عينه. الأنموذج الديمقراطيّ هو المعيار المطلوب كما في معظم الأحزاب الراقية للاستمرار والديمومة، وفق رؤى وأفكار ومبادئ تناقش، وليس وفقًا للأهواء الشخصيّة وشبق السلطة المتحكّم بكثيرين من دون مضامين تحدّد ومعايير تظهر. لا أحد يمكنه إنكار دور "التيار الوطنيّ الحر" وتأثيره في مسرى الحياة السياسيّة اللبنانية سواء في المجلس النيابيّ أو مجلس الوزراء وعلى المستوى العام. لكنّ التحوّل بالنظام الداخليّ إلى حالة المؤسسة ملحّ، وهذا يحتاج بالفعل لورشة سياسيّة وحقوقيّة وفكريّة رائدة لتحديد ولادة المؤسسة وتجذير انتظام النظام وتكوّنه في الهيكليّات الداخلية، في ماليّته في انتخاباته في لجانه، وهو بدوره أساسيّ وجوهريّ لتبقى إطلالته متميّزة، لها ديمومتها مع مؤسّس واكب الحياة اللبنانية من الجيش إلى السياسة والقيادة كقطب تمثيليّ كبير، ومع مستقبل يبقى فيه المؤسّس الفكر النابض بعد عمر مديد، فلا الأمانة تغيب بل تظلّ لمن يستحقونها بالممارسة، لتليق بالتيار وبوطن يرنو نحو النور مع فجر يطلّ.