دار الزمان دورة كاملة بين المرحلة التي كان فيها الرئيس الشهيد رشيد كرامي يعطّل الحكومات ويرفع مطلب المسلمين جميعاً بالمشاركة في الحكم، في وجه تسلّط "المارونية السياسية" وتفرّدها بالسلطة، (كان رئيس الحكومة حينها مجرّد باش كاتب، حسب توصيف كمال جنبلاط)، وبين المرحلة الحاضرة، التي يقف فيها أقوى وأبرز زعيم مسيحي، وماروني، هو العماد ميشال عون، مطالباً بحق المسيحيين عموماً، والموارنة منهم، بالمشاركة في الحكم، في وجه الممارسات الإقصائية والإلغائية التي تعتمدها "الحريرية السياسية"، التي تدّعي يوماً النطق باسم شريحة كبرى من المسلمين، وفي اليوم التالي تزعم أنها عابرة للطوائف.

حكمت "المارونية السياسية" في ذلك الوقت وفق منطق "ما لنا، لنا، وما لكم، لنا ولكم"، فجنت بغبائها وجشعها على البلاد بكل مكوناتها، وكان أول ضحاياها المسيحيون، والموارنة خصوصاً. واليوم، تُكرر "الحريرية السياسية" ذات الممارسات، مع اللبنانيين عموماً، ومع المسيحيين على وجه الخصوص، ومن أسهل الطرق لتحقيق هذه السياسة، تفصيل قانون انتخابات على قياس الطرف المهيمن في البلاد. وهكذا، تحوّل "قانون الستين" الأكثري، السيئ الذكر، من سكين لطالما ذبحت "المارونية السياسية" أخصامها بها، من مسلمين ومسيحيين، إلى خنجر في يد "الحريرية السياسية"؛ تطعن فيه تمثيل الآخرين في المجلس النيابي، أيضاً مسلمين ومسيحيين، وتستولي بواسطته على حصص متفاوتة من التمثيل، الذي يفترض أن يكون تمثيلاً صادقاً وشفافاً للبنانيين، وليس لأصحاب المال والنفوذ ومن يتبعهم من حاشية ومبخّرين.

وإذا كان منطق الإلغاء والإقصاء السابق أوصل لبنان إلى حروب وصدامات داخلية مفتوحة على ارتباطات خارجية تدعم وتستغل وتفتن، فإن منطق الاستيلاء والتهميش والإلحاق الحريري القائم يظهر بأبشع صوره في طريقة تعامل حكومة الرئيس تمام سلام مع الدور والتمثيل المسيحيَّين في الحكومة، وفي السلطة، مما يهدد آخر ما تبقّى من دور وموقع للمسيحيين في الحكم في لبنان، ويُكمل ما بدأته التنظيمات التكفيرية المصنَّعة أميركياً، في ضرب وإلغاء الوجود المسيحي العربي برمته، في سورية والعراق ومصر ولبنان، والذي يتكامل مع حرب تهجير المسيحيين التي نفذها العدو "الإسرائيلي" في فلسطين، وكان من نتيجتها هجران القسم الأعظم من مسيحيي فلسطين لأرض السيد المسيح.

اليوم يُطلق المسيحيون صرختهم في لبنان، بعد أن أسقط منطق الاستيلاء والإلحاق الحريري مبدأ المناصفة في الحكم، وبات أكثر من نصف التمثيل المسيحي تابعاً للمال النفطي المسيَّر بالإملاءات الغربية، وإذا ما استمر هذا المنطق سائداً على مستوى الحكم والحكومة، فإن إمكانية اعتماد "المثالثة" التي طُرحت كفكرة ولم ترَ النور بعد، لا تعود ممكنة.

والأغرب في هذا المجال، أن المسيحيين الملحَقين بالحريرية السياسية يمارسون الدور ذاته الذي لعبه بعضهم في مرحلة ما قبل التوصّل إلى اتفاق الطائف؛ في ذلك الوقت، فضّل هؤلاء أنانياتهم وارتباطاتهم الخارجية على سماع صوت ميشال عون الرافض لذاك الاتفاق الذي لم تطبَّق أبرز بنوده حتى اليوم، خصوصاً تلك التي تنص على إلغاء الطائفية السياسية، والالتفات إلى شؤون الناس الحياتية والاجتماعية، وكان من أبرز نتائجه تطبيق سياسة "قم لأقعد مطرحك" بدلاً من العمل على إقامة دولة حقيقية تخدم شعبها، وتحلّ مشاكله بدلاً من الاستثمار عليها لتحقيق الثروات وزيادة النفوذ.

قبل اتفاق الطائف، اشتبك المسيحيون في ما بينهم، وعندما حانت ساعة التسويات، ذهبوا إليها زحفاً، بعدما حطّموا أرجلهم بأيديهم، والأمر نفسه كرّره مسيحيو الرابع عشر من آذار، عندما شنّوا حملة "فل" على الرئيس السابق إميل لحود؛ في ذلك الحين قيل لهم إنكم تحطّمون آخر ما تبقّى من دور وهيبة لرئيس الجمهورية المسيحي الماروني، فقال أحد منظريهم: "اللي بِنَزِّل بيطلِّع".. لكن هيهات.

لم يتعلم المسيحيون، وبالتحديد "مسيحيو السفارة الأميركية" و"14 آذار" الدرس، وبعضهم تحت وهم إمكانية تحقيق الكونفدراليات والكانتونات، في ظل الهجمة على أكثر من بلد عربي، يدفع الأمور دفعاً، أو على الأقل لا يعترض على تحوّل الحكم في لبنان إلى ثنائية إسلامية "متناحرة" يتوزع المسيحيون على هامش طرفيها.. ساعة إذ، تكون محاولة عون الإنقاذية قد فشلت، ويصبح حلم البعض أن يقوم دين براون من قبره ليقول له: أين البواخر تنقلنا إلى الخارج، هذا إذا بقيت أبواب الخارج مفتوحة أمامه.