ليس حراك "التيار الوطني الحر" منفصلاً عن دخول لبنان الحقبة المصيريّة والوجوديّة، الخاصّة بكيانه ومكوّناته. ينزل بهواجسه وأسئلته المتصلة بالمستقبل القريب والبعيد، حاملاً معه رؤية يعتبرها مخرجًا للأزمة العقيمة التي بلغناها في لبنان، وهي ليست مجرّد مخرج تسوويّ لتلك الأزمة العقيمة، بقدر ما هي مطلب ملحّ عند مكوّن جوهريّ تم تغافله غير مرّة، والنأي به خارج إطار منطق المشاركة الفاعلة.

تسوغ مناقشة "التيار الوطنيّ الحرّ" في حيويّة حراكه وديناميّته على مستوى الشارع في ظروف دقيقة للغاية، ومن باب الترقّب والنقد الهادئ، ولكن ليس بقدر ما تسوغ مناقشة هؤلاء في مضامين خطاباتهم الموظَّفة وحدود توظيفها والتي قد تكون غير محدودة الأفق وغير محمودة النتائج بسبب انعطاب وحدانيّتهم، وتاليًا، بسبب كثافة الالتباس السّائد عند بعض قادة هؤلاء، بتعليقات خدشت كثيرًا بل جرحت مضمون طائفة مكوّنة تئنّ، وتسعى لاستعادة دورها في النظام السياسيّ. فالالتباس ليس ماركسيًّا إذا شاء بعضهم التخفيف من وطأته وثقله، بل هو سمج بكلّ ما للكلمة من معنى ممجوج من الجميع، ذلك أنّ الجدليّة لا تفترض الرفض والتعيير والتقبيح بالآخرين بل تأبى كلّ ذلك، لكونها تتوسّل النقاش حتى سبيلاً ولو من زاوية الإلحاد. التحرّر من وحدانية الرؤى عند هؤلاء مزّق المطالب، وحوّلها من السياق الاجتماعيّ باتجاه السياق السياسيّ المحض، وهو قائم على تعميم الاتهامات لمجمل السياسيين من دون تحديد واستظهار رصين وواقعيّ للمساوئ الظاهرة من جوف الحريريّة السياسيّة المكشوفة على مجموعة صفقات بدءًا من سوليدير وصولاً إلى النفايات، ومن دون قراءة لما بلغه الواقع الماليّ من مديونيّة خطيرة جعلت البلد بكليّته مرتهنًا للقوى الخارجيّة.

حراك "التيار الوطنيّ الحر"، إذا شئنا التوصيف، موجّه حصرًا إلى تلك الحريريّة بتحريك الاتهامات في كتاب "​الإبراء المستحيل​" في الشارع بعيدًا عن آليات التعميم المعتمدة في أدبيات المتظاهرين في بيروت، وفي الوقت عينه دعوة للناس لحالة ديمقراطية جديدة يعبّر عنها مشروع جديد لقانون الانتخابات كان سبق للتيار أن دعا إليه وهو المشروع المقدّم من "​اللقاء الأرثوذكسي​ّ" الانتخابيّ وانتخاب رئيس للجمهوريّة يمثل بيئته. لقد شاء "التيار الوطنيّ الحرّ" إطلاق صرخته برفع مطالبه من ساحة الشهداء، وآثر بهذا المعنى أن يجعلها عموديّة، تصاعدية من الأرض إلى ​طاولة الحوار​ التي دعا إليها رئيس مجلس النواب نبيه بري وقد قرّر العماد ميشال عون في الوقت نفسه المشاركة بها بكلمة "طبعًا سنشارك". عموديّة الحراك اختبار للقيادة الجديدة، في الكمّ والنوع. لقد اعتبر مصدر سياسيّ، بأنّ الكمّ يحدّد الديناميّة بمقدار ما تتجسّد منها حيوات متدفّقة تصبّ في الهدف الذي شاءه التيار لنفسه، وهو استعادة المجلس النيابيّ لشرعيّته المفقودة وميثاقيّته المهدورة بقانون عصريّ يتوثّب المواطنون به إلى قول كلمتهم في صناديق الانتخاب، وعدم تكرار انتخاب رئيس للجمهوريّة مشابه لما سلف. العدد بالنسبة لأهل التيّار ملحّ لأن الصوت سيتدحرج نحو طاولة الحوار بالحجم الكميّ والخطاب النوعيّ. وسيتّجه بإلحاح شديد إلى تعميم إنتاجية سياسيّة جديدة متوثّبة باتجاهات عديدة، تلامس أرض الواقع في لحظات المخاض التي يمرّ بها النظام السياسيّ اللبنانيّ وصولاً إلى الحقبة الجديدة المرسومة للمنطقة، ولبنان في قلبها. "التيّار الوطنيّ الحرّ" مدرك بوزرائه ونوّابه وكوادره بأنّ الطائف انتهى زمانه وبطل دوره، كان بعضًا من مرحلة تسوويّة خدمت المصالح السوريّة-السعوديّة، واستفادت منه أطياف كثيرة على حساب المسيحيين كما أوغلت بِنَحرِ مصالحهم وتهميشهم. وقد وأده للمرّة الثانية الاحتراب السوريّ-السعوديّ على أرض سوريا ومنها إلى لبنان بعد أن وُئِدَ للمرّة الأولى بانقلاب الحريريّة السياسيّة عليه بعناصرها المسيحيّة والإسلاميّة، إذ جعلته ملكًا لها ووشاحًا لستر أهوائها، ومطيّة لترسيخ مصالحها. الزمان الحاليّ منطلق من صراع سعوديّ-سوريّ-إيرانيّ، والاتفاق الدوليّ-الأميركيّ وطّد الدور الإيرانيّ على حساب الدور السعوديّ المتواجه مع الدور الإيرانيّ بحالاته المذهبيّة والتأسيسيّة، حتى يحين أوان التسوية في ظلّ الاتفاق الكبير، فكيف بإمكان اتفاق محليّ بوجهه السابق أن يعيش في ظلّ عقم الحلول على المستويات كافّة وتبدّل موازين القوى الخارجيّة وانسياب الصراع نحو الداخل اللبنانيّ؟

تلك الرؤى استجمعها "التيار الوطنيّ الحر"، كعناوين واضحة لحراكه المتجدّد. لن يستهلكها وبحسب مصادره لإسقاط الحكومة في الشارع، فهو ومن باب الواقعيّة السياسيّة مدرك بأنّ ذلك سيؤدّي إلى فوضى عبثيّة تتداخل فيها عناصر التأزيم باتجاه الانفجار. ولعلّه ينطلق من ذلك بتوافق واضح مع "حزب الله". فالمسألة وبحسب مصادره ليست شخصيّة بينه وبين رئيس الحكومة تمّام سلام، لكنّها (أي المصادر)، تحمّله مسؤولية الاندراج في مآرب "تيار المستقبل" وإرادة النائب السابق فؤاد السنيورة والذي يبدو أنّه يتصرّف كرئيس حكومة ظلّ. كان يجب على سلام أن يتفادى عملية الاندراج، ويستكمل نهجه التواصليّ، وهو العارف بأنّ تعاونه مع وزير الخارجيّة ​جبران باسيل​ كان مثمرًا بحدود واسعة، وبالتالي ما كان له أن يكون في هذا الموقع وما كانت لتلك الحكومة بالذات ان تبصر النور لولا موافقة "التيار الوطنيّ الحر" لتأليفها، وبرأيه ليس حميدًا التنكّر لتلك الحقيقة وقد أبرزها تيار المستقبل أكثر من مرّة في أدبياته المحليّة حول دور "التيار الوطنيّ الحرّ". المسألة الحاليّة محصورة بين التيارين وسلام كان عليه أن يمثّل دورًا وفاقيًّا بينهما لا أن يتحوّل إلى طرف متنكّر لما كان يقوله والده المغفور له صائب سلام، لا غالب ولا مغلوب في لبنان، فظهر بمظهر الفريق الغالب على حساب الفريق المغلوب وتلك هي الطامة الخطيرة التي شابت العلاقة بين سلام وعون. يذهب التيار إلى الشارع وإلى طاولة الحوار في آن، مع مؤسسه ورئيسه الجديد جبران باسيل.

حراك التيار المتجدّد محطّة لتجديد ديناميّته من الأرض إلى طاولة الحوار. سيلتقي بكل الأفرقاء لكسر الطوق والانعزال... غير أن الجوهر أن يسير الجميع باتجاه الشراكة الوطنيّة المتفاعلة في ظلّ ظروف سيتشدّ فيها النزاع في المنطقة، قبل أن يبتلع لبنان فيكون الأرض التي تحوي حروب الآخرين وتسوياتهم على حسابنا، وكأننا لم نتعلم شيئًا من تجارب الماضي.