من نوافل الأمور ألا يؤخذ بيان "​كتلة الوفاء للمقاومة​" الذي تلاه النائب ​حسن فضل الله​، على غرار معظم البيانات المطروحة للتداول أو إبداء الموقف أو النقاش، والسبب في حقيقته لا يعود فقط إلى الموقع الذي تمثّله الكتلة في الحيّز التمثيليّ او السياسيّ، بل إلى أنّ هذا البيان كشف دورًا تعطيليًّا تمارسه كتلة يتم الحوار معها على صعيد ثنائيّ، أو هي جزء من ​طاولة الحوار​ المجوّفة من مضمونها بفعل ما تمّ تسريبه من نقاط تسوية جاء بندها التاسع بمثابة فخ أعدّ للتفجير فعطّل رئيس تكتل "التغيير والإصلاح" العماد ميشال عون صاعقه باكتشاف المروّج والمستفيد.

ويكشف البيان عناوين الصراع بالمفردات اللبنانيّة في ظلّ الموت السريريّ للدولة، وبالتالي في إطار أخذ لبنان نحو صراع كبير، وما استقلّ البلد يومًا من الأيام عن صراعات تمّت على أرضه بتحريك الآخرين للعناصر الداخليّة، ومن المفترض مع التحوّلات الكبرى أن لا يستقلّ لأنّه تاريخيًّا تأسّس نظامه السياسيّ بتسويات الآخرين، منذ القرن التاسع عشر مع نظام القائمقامّيتين وصولاً إلى ​اتفاق الطائف​ والدوحة.

كلّ العناوين الداخليّة المقروءة، إمّا مكتوبة بأقلام الآخرين وحروفهم، أو مصطنعة لتمرير الوقت بانتظار ما ستؤول إليه ظروف الإقليم بدءًا من سوريا وصولاً إلى اليمن. ستتم الإشارة إلى المنطقة بواسطة العنوان اللبناني، ولكنّه لن يكون باستحقاقاته المدخل نحو التأسيس، وهذا ما هو متعارف عليه من معظم الأوساط السياسيّة. بل سيكون ملحقًا بعملية التأسيس، بل قل بعملية التكوين. مسرى الأحداث بالتفاصيل الداخليّة المتدرّجة من صراع عموديّ كبير وكثيف تشي حتمًا بموت الطائف على الرغم من محاولات تعويمه بشكل أو بآخر.

ما لم يره بعض الساسة اللبنانيين، أنّ هذا "الاتفاق" أيضًا بالمعنى العربيّ للكلام قد سقط مع سقوط الرعاية السعوديّة والسوريّة. السعوديّون في حقيقة الأمر في أزمة وجوديّة منذ دخولهم الوحول السوريّة واليمنيّة والعراقيّة، وبعد فقدانهم لعناصر الإمساك باوراق القوّة وتدحرجهم نحو مواقع الضعف في اصطفاف الصراع، والسوريون بدورهم ينتظرون اللحظة الجديدة للتكوّن فيما معظم المصادر بدأت تشير إلى حلولها في ظلّ دخول العنصر الروسيّ مباشرة في قلب الصراع، وقد حدا إلى قلب الطاولة وخلط الأوراق من جديد من سوريا.

إلى ذلك، إنّ بيان الكتلة كشف تلك الحقيقة بوضوح، يضاف إليه موقف رئيس "الحزب التقدمي الاشتراكي" النائب ​وليد جنبلاط​ القائل بأنّ الأقنعة قد سقطت وقد عدّ موقفه متباعدًا عن موقف "​كتلة المستقبل​" ورئيسها فؤاد السنيورة فيما خصّ التسوية بعمقها ووظيفتها. معظم المواقف تدور في فلك واحد وهو سقوط الدولة اللبنانيّة بجوهرها الوظيفيّ والمؤسساتي والسياسيّ.

أمام هذا المشهد، المترابط بواقع التغييرات الجذريّة في سوريا والمنطقة، لا بدّ من توجيه سؤال، هل يمكن إرساء الحلول في ظلّ طائف مات وبخاصّة أنّ ظروفه تبدّلت بعناوين الصراع الحاليّ وعناوين الحلول المستجدّة الخاضعة للنقاش والتمحيص؟ بعض من يشاركون في النقاش السياسيّ وفي جلسات متعددة يميلون إلى تلك الرؤية في ظلّ واقع الاصطفاف المكوّن للبلد ومحتواه السياسيّ وفقًا للآتي:

1-المنطقة بدأت تتحرّك في واقع تحالف روسيّ-​إيران​يّ، وليس العكس على الإطلاق. والتحالف متجلّ بين ​روسيا​ الاتحاديّة، ودولة إيران، التي ستثبت بأنّها قطب يحوي ذروة تجاذب كبير بعد الاتفاق بينها وبين الدول 5+1، والدليل على احتوائها محطات الذروة انكباب دول أوروبيّة للاستثمار فيها، بالإضافة إلى تركيا التي ترنو إلى مزيد من التعاون الاقتصادي والنفطيّ معها باستثمارات قائمة على الرغم من الخلاف السياسيّ. ولذلك إنّ هذا التحالف من شأنه أن ينساب إلى الداخل اللبناني من الأرض السوريّة للمشاركة في التأسيس لواقع سياسيّ داخليّ جديد.

2-الأميركيون متجهون إلى التسليم، ولو على مضض بهذا الدور الروسيّ الجديد، كما سلّموا بالدور الإيرانيّ في العراق، قبل توقيع الاتفاق مع إيران، فكيف وهم في جوف الاتفاق بمضمونه النوويّ. ويتمّ التسليم بواقعيّته على الرغم من الخلاف بين الدولتين المتمحور في معنى الدخول إلى سوريا انطلاقًا من دعوة أطلقتها روسيا إلى السعوديين والأتراك والإيرانيين لتأسيس أوسع تحالف بوجه الإرهاب بعيدًا عن المعايير الأميركيّة الطويلة المدى في القضاء على الإرهاب. سيّما أن التسليم الأميركيّ بالدور يعني أن لبنان سيكون في قلب الدور وليس خارجه، وهذا ما سيغيّر موازين القوى في الداخل.

3-الإسرائيليون يعيشون بدورهم لحظات إرباك وتوجّس مما هو مستجد بعدما رشح عبر أوساط عديدة بأن ثمّة إنذارًا وجّه لهم بحال قرروا التعرّض للجيش السوريّ و"حزب الله".

4-السعوديون هم في ضيق مع أنفسهم ومع المحيط ومع الروس ومع الأميركيين بسبب فشلهم في قيادة الحرب في سوريا لافتقارهم للرؤية الاستراتيجيّة. وهم ينتظرون ما يمكن أن تؤول إليه معركة المأرب في اليمن. إلاّ أنّها وبحسب الخبراء خسروا أوراقهم في المثلّث اللبنانيّ-السوريّ-العراقيّ، وتذهب أوساط أخرى بالقول غلى انهم قد يخسرون موقعهم في الأردن. ولذلك إن رهان بعض القوى اللبنانيّة عليهم بات كمن يقبض على الريح.

وباستنتاج بسيط، إنّ القوى مدعوّة لإعادة ترتيب اولويّاتها في قراءة نقديّة سياسيّة باتت مطلوبة الآن في ظلّ عناوين الأزمة بدءًا من التعيينات أو ​الترقيات العسكرية​ وصولاً إلى انتخاب رئيس للجمهوريّة. ويجزم بعض من شاركوا في تلك اللقاءات بأن الرياح لم تعد لصالح فريق الرابع عشر من آذار على المستوى الاستراتيجيّ وهم على علم بذلك بدءًا من السنيورة وصولاً إلى النائب ​سعد الحريري​ ومعظم قيادات الرابع عشر من آذار. ويعتبر هؤلاء الجازمون بأنّ الأمين العام لـ"حزب الله" السيّد حسن نصرالله حين يسهب بالكلام على العماد ميشال عون بدعمه لترشيحه فإنما يبلّغ رسالة لكلّ المعنيين بأنّ الخيارات الأخرى معدومة، والرياح تأسيسيّة على المدى اللبنانيّ مثلما هي في المدى المشرقيّ. والعنوانان البارزان قانون انتخابات يؤمّن النسبيّة ومن ثمّ انتخاب رئيس قويّ للجمهوريّة وليس توافقيًّا على غرار ما حدث في ​اتفاق الدوحة​. وتنصح بعض الأوساط بضرورة الاتفاق على التعيينات بسلة متكاملة قبل هبوب الرياح التأسيسية إذ فيها سيقول المنتصر كلمة الفصل بفيصل المشاركة الفعليّة.