تحاول المملكة العربيّة السعوديّة مع تركيا التموضع في سياق الإقليم الملتهب عن طريق لبنان مجدّدًا. ويجيء تموضعها خلسةً وتسلّلاً، خلف حجب وستائر ومسميّات أعيد تحريكها من جديد في هذه السّاحة المضطربة والمعطّلة مؤسّساتها الدستوريّة والحكوميّة، كردّة فعل على الدخول الروسيّ أرض الشام ومواجهته للقوى التكفيريّة بالتحالف الكامل والمتكامل مع إيران. من المسميّات التي حرّكت بعد صمت يسير هيئة "العلماء المسلمين"، وقد ظهر حراكهم تأكيدًا لمعلومات وردت إلى بعض الدوائر تشير إلى أن السعوديين عاكفون على محاربة ​روسيا​ بصورة غير مباشرة من خلال تلك الهيئة ومسميّات أخرى كانت قد ظهرت سابقًا في عرسال وطرابلس وعكّار ومن ثمّ همدت بعض الشيء، ليتمّ إيقاظها واستهلاكها لإحداث فوضى مذهبيّة وطائفيّة من نوع آخر، تبدأ بالصراخ والانفعالات، وتستعمل فيها وسائل الضغط النفسيّ Psycho-stress تمهيدًا للانفجار الأمنيّ على الأرض.

من العناوين المستعملة في آليّات الصراع، العلاقة الأرثوذكسيّة-السنيّة في لبنان. وقد طالبت تلك الهيئة الأرثوذكس الإنطاكيين بموقف شاجب للدخول الروسيّ قبل فوات الأوان، في حين أن الهيئة لم تشجب على الإطلاق المجازر التي ارتكبتها التنظيمات التكفيريّة بحق مسيحيي سوريا والعراق، ولم تدع مرّة المسلمين إلى قول حلال أو موقف شجاع طبقًا للآية القرآنية القائلة "وجادلهم بالتي هي أحسن" (سورة النحل، الآية 125). وانطلاقًا من ذلك، تكشف بعض المعطيات، إلى أن تلك الهيئة جزء عزيز من تلك التنظيمات الرافضة لكلّ آخر والمحدثة لكلّ شغب، عبر تغطية واضحة للممارسات الوحشيّة والرفضيّة التي قامت وتقوم بها "داعش" و"جبهة النصرة" في سوريا والعراق. وفي هذا السياق رأت بعض الأوساط السياسيّة بأنّ الرأي العام لم ينس الدور الملتبس بل الملتوي لتلك الهيئة بالذات في تضليل الجيش اللبنانيّ في عرسال في لحظة خطف العسكر، وكان يجب بالتالي أن تسأل تلك الهيئة بالذات عن دورها بعد خطف الجنود، وقد خلعت عنها سربال الوساطة وتحوّلت إلى شريك في الخطف.

مرجع إسلاميّ متخصّص ومتبحّر، وخلال حوار هادئ ومتجرّد نفى وجود مشكلة جوهريّة بين السنّة والأرثوذكس في لبنان أو المشرق العربيّ، فهذا وكما قال غير قائم في الوجدان الإسلاميّ على الإطلاق، وما تُظهره تلك الهيئة لا يمثّل تلك الحقيقة، بل يشوّهها ويقود البلد إلى توتّر واحتراب، وهذا غير وارد في ذهن الواعين من المسلمين السنّة. واستذكر هذا المرجع المتبحّر الأحداث التي حدثت في كوسوفو سنة 1996، وذكّر بقول للعلاّمة السيّد محمّد حسين فضل الله، حين حاول بعضهم زجّ الكنيسة الأرثوذكسيّة الأنطاكية في هذا الصراع، بأنّ الوجدان الأرثوذكسيّ الأنطاكي يملك الصفاء في تقييم الأمور، وهو وجدان عروبيّ ومشرقيّ، بل هو وجدان مؤسّس للعروبة وليس من مشكلة بينهم وبين المسلمين. وفي الحوار معه، ركّز المرجع في واقعيّة ما تمارسه القوى التكفيريّة من إرهاب وإرعاب، معرّبًا كلمة Islamo-phobia ليخلص بأنّ الخلاص من وطأته ووحشيّته وتأثيره على الحياة الإنسانية والسياسيّة والاقتصادية والروحيّة واجب أخلاقيّ ومقدّس، وهذا الأمر أشار إليه الأزهر كردّة فعل على حرق الطيار الأردنيّ منذر الكساسبة. ودعا المرجع المشار إليه المسيحيين والمسلمين لمحاربة تلك التيارات بكلّ الوسائل الممكنة، مظهرًا بأنّ الإسلام الصافي المبثوث كرسالة وحضارة ووجود يأبى تلك الممارسات بل يحرّمها بالعمق العقائديّ والفقهيّ، فلا مكان لهؤلاء في المدى الإسلاميّ، لأنّ الإسلام دين الرحمة والتسامح، ومحاولة شيطنته وأبلسته مرجعها أميركيّ يهوديّ، لإظهار بأن ثمّة مشكلة بين الإسلام والغرب، وبين السنّة والشيعة، وبين الإسلام والمسيحيّة. وحين يسأل عن موقف الكنيسة الروسيّة الأرثوذكسيّة، وبخاصّة موقف الأب شابلين يجيب: "لماذا يستغرب بعضهم تلك المواقف؟ الكنيسة الروسيّة بالدرجة الأولى لها امتدادها العميق في الثقافة الأرثوذكسيّة المشرقيّة، والأرثوذكس المشارقة منكبون عليها ويستلذّونها في أدبياتهم الروحية والثقافيّة، وقبل ذلك هي متكوّنة من المدى المشرقيّ وليس من مدى آخر.هل ينسى كثيرون بأن للكنيسة الروسيّة مدارس تعليميّة سميت بالمدارس الموسكوبية بين لبنان وسوريا وفلسطين منذ القرن التاسع عشر، وهل يمكن نسيان بأنّ روسيا قبل الثورة الشيوعيّة مارست الرعاية التامة والحماية لأرثوذكس المشرق؟ فلماذا استغراب هذا الكلام وافتعال مشكلة؟ وأضاف قائلاً: "الفرق بين ذلك الزمن وهذا الزمن بأنّ روسيا ليست في الزمان الحاضر ساعية لرؤية أرثوذكسيّة مغلقة بوجه الإسلام إذا ما رامت محاربة القوى التكفيرية وهي تحاربها، بل هي ساعية بتحالفها مع إيران وحوارها مع بعض الدول الإسلاميّة كسلطنة عمان ومصر، لتأمين تواصل جوهريّ بين إسلام حضاريّ ساطع من بهاء القرآن الكريم ومن سيرة النبيّ والأصفياء، مع مسيحيّة ليست بصليبيّة على الإطلاق، بل هي مسيحيّة المحبّة والرحمة والإحسان والسلام، وهي مكوّن روحيّ وتاريخيّ لهذا المشرق ولدنيا العرب ولعروبة نحن جميعنا جزء منها، ولها بدورها ان تثبت وتدافع عن وجودها، بل لنا جميعنا أن ندافع عنها لأنّها ملح الأرض، وقد تقاعس عدد كبير من المسلمين في إظهار هذه الحقيقة وآن الوقت ليظهروها.

هدوئيّة هذا المرجع، ورصانته في تقييم الأمور لا تحجب معنى التموضع السعوديّ-التركيّ، وإمكانيّة تمزيق سند الاستقرار وجذب الساحة إلى الانفجار، طبقًا لثقافة الفوضى الهدّامة بالسّياق الأميركيّ، والّذي في استراتيجيّته هادف لاستثمار كلّ العناوين الصداميّة في قلب الشرق الأوسط لإبقائه قيد الشغب وتحت وابل الفتنة. والسعوديون كما الأتراك والقطريون هم جزء منه، والأكثر إيلامًا انّ لا أحد سمع موقفًا سعوديًّا شاجبًا لما يحصل في المسجد الأقصى. لبنان في حالته الحاضرة وفي الرؤية السعوديّة عنوان لجعل الخاصرة السوريّة أكثر هشاشة في ظلّ الحرب الروسيّة على الإرهاب بعناوين متراكمة وخطيرة. وعلى الرغم من أن بعض القوى تستبق النتيجة أحيانًا في التشخيص والتحليل، بالتأكيد وبواقعيّة على أنّ الغلبة ستكون للقوى المتحالفة ضدّ الإرهاب من لبنان إلى سوريا، لكنّها تخشى انفجار تلك العناوين تباعًا كحالة ضغط موجعة في ظلّ الشلل الحكوميّ المستشري بقسوة، وتحذّر من استمرار الفوضى والفلتان في المواقع الحدوديّة وبخاصّة من عكّار إلى عرسال، وفي مخيّم عين الحلوة. وتؤكّد تلك القوى على ضرورة الاتجاه إلى الحسم، فعدم الحسم مضافًا إلى واقع لبنان سيؤدّي إلى التدحرج والانهيار.

لبنان في قلب الشرق الأوسط الجديد، ولكنّه الآن في قلب المخاض الموجع كثيرًا. لبنان أرض لتلك الصراعات ولكنّه في الوقت عينه منطلق لسلام قد يبدو وشيكًا إذا لحظ اللبنانيون دورهم في حفظ الأمن والهدوء. إنها اللحظة للشروع باتجاه نحت اتفاق سياسيّ يحمي البلد، قبل ان يتفّق الآخرون على تسوية تملى علينا ويدخل بعضهم فيها صاغرين خارج سياق الوجود والكلمة المسموعة. إنّها لحظات الحسم الدقيقة والشديدة، فانتبهوا!