تتنقل قوى الرابع عشر من آذار في مخططها المستمر للتخلص من وجود المقاومة والسيطرة على مفاتيح الحكم في لبنان، ومنع الآخرين من الإمساك بها، بين خيبة المسعى وفشل الرهانات، خصوصاً أنها منذ أن بدأت هجمتها، تواجه الفشل تلو الفشل، وصولاً إلى بروز ملامح خسارة أهم أوراقها ومصدر قوتها، وهو النفوذ السعودي، المبني على المال أولاً وأخيراً.

منذ البداية، كان الهدف والوسيلة لها للحكم، التخلص من المقاومة وسلاحها؛ عوقب النظام السوري وأُخرج من لبنان بعد أن رفض الانقلاب على المقاومة، وفشل الرهان على التجمهر في ساحة الشهداء، في ليّ ذراع المقاومة التي ردّت بتجمهر أكبر، ثم فشلت كل وسائل ومخططات "الصديقين" جيفري فيلتمان وجون بولتون، خصوصاً حملة شراء الذمم لتشويه صورة المقاومة.. وكان الفشل الأكبر والخيبة الكبرى عندما تحطّم العدوان "الإسرائيلي" عام 2006 على صخرة صمود وبطولات المقاومين، وامتد زمن الفشل والخيبة ليطال محاولات إنشاء "ميليشيات" محلية مسلَّحة كان مقدَّراً لها أن تكون جزءاً من مشروع مؤامرة كبرى للانقضاض على المقاومة في لبنان وضربها، تحت ستار قرارات حكومة فؤاد السنيورة في الخامس من أيار 2008، وإذ بالمقاومة وحلفائها تكتم أنفاس المؤامرة في السابع منه خلال ساعات معدودات.

لم تسلّم القوى التي تقف خلف تحالف قوى "14 آذار" بالهزيمة، فكان الرهان على المشروع الأميركي المموَّل خليجياً للاستيلاء على سورية، أو إحراقها لإلغاء دورها في حماية ظهر المقاومين، عبر حشد عناصر القوى التكفيرية واستجلابها من كل أصقاع العالم، لكن سورية صمدت طوال خمس سنوات، وبدلاً من أن تقوم الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها العرب والغربيون بالهجوم على سورية، حسب ما كان مخططاً، أسقط في يد الأميركي وتراجع عندما أسقط له الروس أول دفعة من صواريخه التي أطلقها باتجاه سورية، وها هو الروسي يتدخل بعد أن تيقّن أنه الهدف البعيد لكل المخططات التي تستهدف المنطقة، وأنه سيكون نصب أعين التكفيريين صنيعة التخطيط الأميركي والفكر الوهابي منذ الحرب ضد الاتحاد السوفياتي السابق في أفغانستان، ومنذ توريط العراق في حرب ضد الجمهورية الإسلامية في إيران، ومن ثم احتلاله وتدميره للتخلص من عناصر القوة التي أُعطيت له، بعد أن فشلت في إخضاع إيران التي حققت نجاحاً باهراً على صعيد تصنيع وتجميع كل عناصر القوة التكنولوجية والعسكرية، التي جعلت منها قوة إقليمية يُحسب لها كل حساب، وجعل الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة يوقع معها، صاغراً، على الاتفاق النووي، الذي وضعها في الصفوف الأولى للدول المتقدمة والقوية.

في المقابل، ما يزال رموز قوى "14 آذار" يصرون على التمسك بأوهام القوة التي يوهمهم الخارج بوجودها، فترى سمير جعجع مستمراً في المطالبة برحيل الرئيس السوري عن الحكم، وكأن ما عجز عنه الغرب وأتباعه قادر عليه جعجع. كما تسمع الرئيس سعد الحريري يدافع عن مواقف المملكة العربية السعودية، التي يبدو أنها "نسيت" تحويل مساعداتها المالية له ولمؤسساته منذ أشهر طويلة، حتى أن بعض "المستقبليين" خرج مؤخراً يهدد بمغادرة طاولة الحوار التي يديرها رئيس مجلس النواب نبيه بري، وبالخروج من الحكومة التي يترأسها تمام سلام المحسوب على "تيار المستقبل".

وحسب أوساط سياسية تتبنى هذه القراءة للتطورات اللبنانية والإقليمية، فإن أوراق القوة التي طالما اعتمدت عليها قوى "14 آذار" تتهاوى بسرعة أكبر مما كان يتوقع أخصامها، فـ"الإسرائيلي" بات لاعباً صغيراً في المنطقة، في ظل الوجود العسكري الروسي في سورية، وهو لا يجرؤ على اللعب مع الكبار، حتى أن الشمال اللبناني بات محرَّماً على طيرانه الحربي.

أما الأميركي فقد حسم سلباً مسألة انخراطه في أي قتال على الأرض، وبات يكتفي بالحرب "الذكية" التي تعتمد على الطيران المسيَّر، وعلى تسليح ودعم الأتباع ليقاتلوا عنه.

تبقى المملكة العربية السعودية، التي غرقت ومعها دويلات الخليج في وديان وجبال اليمن، فإنها، حسب تقارير من داخل المملكة، تخسر بسرعة فائقة العناصر الخمس المكوِّنة لقوتها، وهي تخسر عنصرالعقيدة والفقه بعد تفجّر الخلاف بين العائلة المالكة والأجنحة الأكثرتطرّفاً في الحركة "الوهابية"، زيادة على خسارتها لهيبتها وجدارتها في تنظيم حج المسلمين لبيت الله والأماكن المقدسة، بعد تكرار الحوادث الدموية الناتجة عن "الفوضى" في إدارتها لهذه "المناسبة السنوية"، وهي تخسر كذلك قوة المال، نتيجة تراجع الأسعار العالمية للنفط، في الوقت الذي تبذّر مدخراتها على نشر الحروب والفتن في سورية والعراق واليمن وليبيا ولبنان وأماكن اخرى.

حتى النفوذ الإعلامي الذي تصرف السعودية الكثير عليه، يعتبره متطرفو "الوهابية" معادياً لهم، و"ليبرالياً" لا يتوافق مع خطابهم التكفيري.

أما التحالف مع أميركا، وهو أحد أهم مصادر القوة السعودية، فإنه يهتز بقوة، بعد الفشل السعودي في تأمين المصالح الأميركية في سورية والعراق ولبنان واليمن..

يبقى العنصر الخامس، وهو رعاية السعودية لدويلات الخليج، وهذا الدور القديم بات ضعيفاً، خصوصاً أن السعودية تقاتل للمرة الأولى مباشرة وليس بالواسطة؛ تقاتل بقوتها العارية في اليمن ولا تحقق أهدافها، بل يتوقع الكثيرون لها الفشل الذريع.

في المقابل، تؤكد أوساط متابعة أن روسيا - في ما يُعرف بـ"عقيدة بوتين" - حسمت أمرها، وهي تخطط منذ سبع سنوات لتصل إلى ما تقوم به هذه الأيام، وهي لن تتراجع عن حماية مصالحها وإفشال مشاريع التقسيم والتفتيت ونشر الفتن في المنطقة العربية، لأن ترددات هذه المشاريع مخطَّط لها أن تجد صدى داخل الاتحاد الروسي، وهو ما لن تسمح بها إدارة فلاديمير بوتين.

فهل يعقل قادة "14 آذار" ويركنون إلى منطق الحوار والمشاركة والاعتراف بالآخر، أم يدفعون لبنان إلى الأتون المشتعل في المنطقة؟