تحول الصابون من مفهومه التقليدي القديم كأداة للنظافة... الى فن راق ووسيلة للترفيه، اذ بات اللبنانيون يحتفظون به في منازلهم للزينة وكثيرا ما تصبح في المناسبات الخاصة هدايا جميلة شكلا ورائحة، تجمع بين الحفاظ على التراث وبين إبتكار كل جديد يتماشى مع تطور العصر في النظافة والرفاهية وحتى العلاج الطبيعي.

كسر محترفو صناعة الصابون عرفهم السائد واستبدلوه بقناعة راسخة بأن مهنتهم أصبحت اليوم نوعا من أنواع الفنون التي تواكب التطور والا إنعدم سوقها، وكسد البيع ولم تعد تلقى رواجا واقبالا، فالصابون الذي كان نقيضا للوساخة بات يعني الرمز الرومنسي والمغزى الاجتماعي الذي يدل على طبقة المجتمع في استخدامه.

ويكتسب الصابون المصنوع من زيت الزيتون، شعبية عالمية بفضل نقاوته وميزاته الترطيبية الطبيعية، إذ كان يصنع تقليدياً من الزيت الخاص الذي تعصره كلّ عائلة من أشجار الزيتون التي تملكها، ينقش اسم العائلة على ألواح الصابون بالعربية أو غيره من الرموز، دلالة على نوعية الزيت المستخدم، ومهارة صانعه أو وصفته السرية، وبحسب التراث اللبناني، يشفي صابون زيت الزيتون غير داء، بدءاً من تساقط الشعر، مروراً بالقشرة، ووصولاً إلى الإكزيما (حساسية جلدية).

مِصْبَنَة جلال الدين

وتشتهر صناعة صابون زيت الزيتون في عدد من المناطق اللبنانية وخصوصا في الكورة، حاصبيا، الشوف وصيدا، ويمكن شراء ألواح منه من المتاجر الصغيرة أو الأسواق الموجودة في مختلف المناطق والاسواق الشعبية اللبنانية. بينما عرفت صيدا صناعة الصابون لأول مرة عبر مصبنة بني جلال الدين التي كانت تقع في حارة الزويتيني وكانت تحتوي على طبقة علوية وأُخرى سفلية وبئر ماء معين وآبار معدة لوضع الزيت، ولا يزال بناؤها قائماً إلا أن الإهمال، ثم ما خلفته الحوادث الأليمة التي عصفت بلبنان وما تركته من آثار الخراب، جعلاها هيكلاً من دون حياة.

وتعتبر صناعة الصابون واحدة من أقدم الصناعات التقليدية في صيدا، ويوصف إنتاج صيدا من الصابون بأفضل إنتاج لبناني، وقد تعاقب على هذه المهنة عدد من العائلات الصيداوية الذين أنشأوا معامل صغيرة تعرف بإسم "مِصْبَنَة"، وأشهرها "مصبنة" عودة و"مصبنة" مجيد خوري، إلا أن هذه الصناعة ما لبثت أن تطورت وعرفت صيدا أول معمل لصناعة الصابون حمل اسم "صابون براج وعربي"، وكان قرب "الحِسْبَة"(1)القديمة وذلك في عام 1935.

وفي عام 1952، إنفصلت الشراكة في المعمل وإستمر المعمل ذاته بالإنتاج ولكن هذه المرة بإسم "معمل صابون العربي"، وفي عام 1978 إنتقل من مركزه القديم قرب "الحسبة" إلى مركزه الحالي عند جسر سينيق، وفي المعمل الجديد تطورت صناعة الصابون عبر معدات حديثة في تصنيعه مع المحافظة على جودة الصناعة التقليدية.

متحف صابون عودة

يعود تاريخ المتحف الى القرن السابع عشر، ويروي حكاية الصّابون في المنطقة الممتدة من حلب الى نابلس، كما يبرز المراحل التي تمر بها عملية التصنيع، انطلاقا من زيت الزيتون؛ فضلا عن تنوع اشكال الصّابون وخصائصه.

يشكّل متحف الصّابون "عودة" في ​مدينة صيدا​ مقصداً هاما للزائرين، للتّمتّع بما يضمّه من ثروة هندسية، إذ يزوره سنوياً أكثر من 45 الف سائح من الدول العربية والأجنبية لانه متحف نادر في منطقة الشّرق الاوسط، وله مثيل وحيد للصابون في فرنسا، ويحتوي على معروضات تتضمّن: منتجات الصّابون، وكل ما يتعلّق بلوازم الحمّام التركيّ، والصّابون البلدي والمعطّر والـ"شامبو" الطبيعي، فضلاً عن قسم منتجات المطبخ.

خان الصابون

يضاف اليوم الى خانات المدينة الاثرية والتاريخية خان من نوع آخر، هو "خان الصابون" الذي شرع أبوابه على قلعة صيدا البحرية والاسواق التجارية منذ بضع سنوات، يميزه أن جميع صابونه مصنوع يدويا، ومن زيت الصابون المصنف من النوع الاول.

ويؤكد صاحب مؤسسة "صابونا" الذي يملك الخان قاسم حسون "أن المعمل لا يعتمد على الآلات بل على الصناعة اليدوية، بواسطة الغلي والبارد ونخفف مواد "القطرون"، إذ نضع شيئا لا يذكر لان الصابون بدون "قطرونة" لا يصح، النسبة مدروسة جداً بين 3 ـ 5% فقط، اضافة الى إستخدام زيت الزيتون والمواد الطبيعية لذلك صابوننا طبيعي يداوي ولا نبيع المستورد إطلاقا، ونضيف الى بعضه زيوت أعشاب عطرية وعسل لنشكل منه الصابون التراثي الذي نصنعه منذ عقود طويلة.

وقال: "بات للصابون أشكالا متنوعة تؤرخ لتراث لبنان، لم يعد فقط للنظافة والاغتسال، بل بات فنا، والروائح العطرية تتفاعل مع الروح الانسانية وعندما أسأل عن أفضل عطر أجيب دوما ليس هناك أحسن عطر لكل الناس، كل واحد له عطر مفضل يتلائم مع جسمه وروحه وتفكيره ليعبر عن نفسيته.

وأشار الى "اننا نصنع صابون النعنع، الشاي الأخضر، التفاح، الياسمين، الورد، الخزامة، إكليل الجبل، الفريز، الصندل، البنفسج، الفل، الصنوبر، البابونج، الزعتر وسواها، ونلجأ الى الطب العربي لصناعة صابون خاص لنظافة الوجه والعناية بالبشرة من الدهن والخلايا الميتة والميكياج، إضافة الى صابون علاجي ضد الفطريات في الشعر والجسم والقدمين وشد الوجه ترطيب الجسم وضد القشرة وتساقط الشعر و"كريمات" للوجه.

اسعار وعلاج

وتتفاوت أسعار الصابون بين نوع واخر، ويؤكد حسّون أن الأسعار مدروسة تقوم على قاعدة "الكلفة زائد 20%" وتتراوح بين الفي ليرة لبنانية للصابون العادي وأقصاها صابون العسل 8 الاف، أما الصابون العلاجي والعناية بالبشرة فتصل الى 15 الف ليرة لبنانية، وأسعارنا بالليرة البنانية.

ويشير حسون، أن الاقبال جيد لكنه يقتصر على الاشخاص الميسورين ماديا، وتحديدا اللبنانيين الميسورين من مقمين ومغتربين وأصول لبنانية، إضافة الى السواح العرب وخاصة الخليجيين والسواح الاجانب الذين يزرون صيدا ويتفقدون آثارها، أما الانسان الكادح الذي يسعى وراء تأمين قوت يومه وعائلته يصبح لديه هذا الصابون نوعا من الرفاهيه، مشيرا الى أن الامم المتحدة كانت مهتمة بكيفية مساعدة أصحاب الحرف في صيدا والجنوب على تطويرها وكي لا تنقرض, وعملنا كتراثي يواجه الكثير من المصاعب والمتاعب وهو مهدد بين الحين والاخر بالاغلاق والافلاس بسبب المزاحمة من الصين, الاستيراد أرخص لانها بعيدة كل البعد عن الصابون زيت الزيتون وهي مصنوعة من ماء الرز.

صابون الغار

الى جانب صابون زيت الزيتون يشتهر صناعة صابون الغار، لكن المشكلة تكمن في صعوبة إستخراج زيت الغار، لعدم وجود معاصر مخصصة لهذه الغاية، ويعتمد الأهالي طرقاً بدائية صعبة ومتعبة، وتشمل وعاء معدنياً عبارة عن برميل، ومقطعاً خشبياً مستطيلاً أو مربع الشكل يكبر ويصغر حجمه حسب الحاجة، توضع فيه مادة الصابون بعد طبخها على النار لساعات عدّة وهم بصدد البحث عن وسيلة حديثة.

وتحتاج طبخة الصابون الى 24 ساعة، تتوزع على عدة مراحل بدءاً من الإعداد حتى التقطيع الذي يتم يدوياً بواسطة السكين وإن حبة الغار تشبه حبة الزيتون مع فارق في نسبة الزيت، حيث إن كيلو الزيت يلزمه 20 كيلو غراماً من حب الغار، ولهذا نجد فارق الأسعار بين صابون الغار وغيره من الأنواع الأخرى، وأن سعر الكيلو الواحد هو 15 الف ليرة.

تتميز صيدا بهذه الصناعة الجميلة، التي تُعتبر بالنسبة لمحبيها "ترفاً" لتدليل الجسم اجمالا، ولكن ذلك لا يعني أن صناعة الصابون هي "صناعة عادية" فهي شكلت ولا تزال إحدى "الصفات الحميدة" لمدينة صيدا، على أمل ان تستمر مع تقدم السنوات.

(1)"الْحِسْبَة" هي مكان السوق الكبير الّذي يُباع فيه الخضار والفواكه بأسعار الجُملة.