ليس جديدا ان تكون التصرفات الأميركية محكومة بازدواجية متناقضة تقول فيها اميركا الشيء وعكسه في الوقت ذاته فاذا كان الامر في مصلحتها فانه يكون جيدا مهما كانت طبيعته سيئة،

وان كان الامر مخالف لمصلحتها فإنها تبتدع له الوصف السيء وتستخدم الاعلام حتى تشيطنه حتى ولو كان فيه منتهى الخير.‏

سلوك دأبت عليه اميركا منذ ان تصدت لمنصب القيادة العالمية، وترسخ لديها أكثر منذ ان تفكك الاتحاد السوفياتي وشعرت ان أحدا لن يواجها في هذا العالم ويمنعها من إرساء نظام عالمي احادي القطبية تكون هي وحدها من غير شريك سيدته والمالك لكل ثروة فيه.‏

اما بيدر الواقع فقد كذب الحسابات الأميركية الالكترونية و البشرية على حد سواء ، و لم يستطع العقل الأميركي البشري كما العقل الالكتروني و كل الحواسيب الاميركية ان يفهم ان إرادة التمسك بالحقوق ، معطوفة على إرادة القتال من اجل تلك الحقوق يمكن ان تتصدى وتفشل اعتى القوى و اخطرها ، وظلت اميركا تكابر منذ العام 2000 تاريخ اول هزيمة انزلت بالحلف الصهواميركي على يد محور المقاومة ،حيث كان هذا المحور يبدع في المواجهة كلما ابتدعت اميركا خطة عدوان جديدة ، وكانت المفاجأة الكبرى التي اذهلت اميركا وجعلتها اليوم في حال من الارباك و التخبط العميق ، مفاجأة المواجهة في سورية .حيث ان محور المقاومة الذي كادت له اميركا كل كيدها والذي كان بالحسابات الأميركية محتم التفكك و السقوط ، هذا المحور لم يكتف بالصمود الدفاعي والثبات في الميدان فحسب بل جذب اليه حلفاء وبات معهم في موقع يؤكد ان هناك نظاما عالميا جديدا بعيدا عن الأحادية القطبية التي تحلم او عملت اميركا من اجلها طيلة ثلاثة عقود خلت .‏

تصورت اميركا ان كل اخفاقاتها طيلة تلك الفترة يمكن ان تعالج وتعوض في الحرب الكونية على سورية ، و تصورت اميركا ان تحالفا او تجمعا دوليا من 133 دولة يقف خلفها من شأنه ان يلقي الرعب في النفس السورية ومحور المقاومة ، و اعتقدت ان بيان جنيف 1 الصادر في 30 حزيران 2012 سيكون وفقا لتفسيرها جسرا تعبر عليه للامساك بسورية و فرض الاستعمار عليها عبر تعيين حكام يكونون دمى تحركهم ، و ظنت ...و انتظرت ....لكن كل الاحلام و الظنون و التصورات الأميركية تكسرت عند اقدام الجيش العربي السوري المدعوم من الشعب السوري ومن الحلفاء في محور المقاومة ، ومؤخرا الدعم النوعي من الجيش الروسي الذي قدم الخبراء و المساعدات ثم الاسناد الناري المؤثر في الحرب على الإرهاب الذي تستثمر فيه اميركا .‏

ان الدخول الروسي في الميدان السوري شكل صدمة صعقت أميركا، لأنها هذه المرة دفعت الى موقع بات عليها ان تقتنع فيه ان اسقاط سورية الذي عجزت عن احداثه خلال خمس سنوات من العدوان، سيكون أكثر صعوبة الان مع الوجود الروسي، بل بات الامر واقعا يقرب من الاستحالة ان لم تخرج روسيا من الميدان السوري في مرحلة أولى، وان لم تعد اميركا تنظيم قوات العدوان الإرهابية وتسليحها وتجهيزها في مرحلة ثانية، ثم العمل وفقا لاستراتيجيات جديدة لم تختبر بعد في مرحلة ثالثة.‏

لكن اميركا تعلم ان الوقت لم يعد متاحا امامها اليوم لتنفذ المطلوب في مراحله الثلاث، وتدرك ان عليها ان تختار بين:‏

- حل سياسي للازمة لا تنال منه الا اليسير ويكون في العمق بمثابة التأكيد على هزيمتها في سورية وعبرها في الشرق الأوسط وتاليا في العالم ما يعني ضياع فرصة النظام الأحادي القطبية الى الابد.‏

- او حل عسكري مركب يأخذ بالاعتبار المراحل الثلاث التي ذكرنا، وينفذها تزامنا ودفعة واحدة، مع الخضوع لواقع ضيق المهل التي لا تتعدى الأشهر الستة أي حتى مطلع نيسان المقبل.‏

ويبدو ان اميركا وبمنطق الازدواجية واللعب على حصانيين في ذات الوقت، يبدو انها قررت السير على الأقل علانية بالحلين معا، ممنية النفس بالانقضاض على الحل السياسي في أي لحظة تشعر فيها ان تحركها على الخط العسكري قابل للنجاح. ولذلك نجد اميركا تدفع دي مستورا لإبداء «اقصى الجدية « في البحث عن حل سياسي مع إلزامه بالبطء والروية حتى لا يفقدها الوقت اللازم للعمل عسكريا، كما ان اميركا تقوم بكل ما تستطيع القيام به من اجل خدمة الحل العسكري وهي تضع أهدافا لهذا الحل متفاوتة المستويات كالتالي:‏

- المستوى الأدنى: تعزيز القدرات الدفاعية للجماعات الإرهابية في سورية ومنع الجيش العربي السوري وحلفاؤه من السير قدما في عملية التطهير وتحرير الأرض السورية.‏

- المستوى المتوسط: إرساء توازن في الميدان بين الحكومة السورية وحلفائها من جهة، والجماعات المناهضة لها بمن فيها جميع الجماعات الإرهابية من جهة أخرى، توازن يفسد رجحان كفة الميزان العسكري القائم حاليا الذي اعترف به رئيس الأركان الأميركي لصالح الحكومة السورية.‏

- المستوى الأعلى: إسقاط سورية وسيطرة الجماعات الإرهابية العاملة بالقيادة الأميركية عليها. هدف يبقى قائما في الذهن الأميركي رغم ان 5 سنوات من العدوان عجزت فيها اميركا عن تحقيقه.‏

تنفيذا لهذه السياسة والاستراتيجية المحكمة المتعددة المخارج قامت اميركا بما يلي:‏

- تزويد المسلحين في شرق سورية بالأسلحة والذخيرة (50طناً) مدعية بانها للمعارضة المعتدلة، وهي تعلم انه لا اعتدال في الإرهاب، وأنها عجزت عن تحديد موقع واحد يشغله من تسميهم بالمعتدلين.‏

- ارسال 53 خبيراً من القوات الخاصة الأميركية من اجل إدارة العمليات الميدانية الارهابية في سورية وتشكيل مظلة تحمي بعض الأهداف المهمة وتبعدها عن ضربات سلاح الجو الروسي.‏

- الايعاز للسعودية وقطر وتركيا بتزويد الجماعات الإرهابية بأكبر كمية ممكنة من أفضل سلاح متطور يملكونه ضد الدروع وضد الطائرات.‏

- تفعيل غرفة عمليات «موم» في تركيا، وتولي الامرة الميدانية المباشرة فيها بحضور التركي والسعودي والقطري والفرنسي والبريطاني والإسرائيلي. لمنع تحرير حلب والجبهة الشمالية.‏

- ارسال طائرات ف16 أميركية جديدة الى تركيا ورفع جهوزية القواعد العسكرية الأميركية فيها للإيحاء بان اميركا باتت على اعلى مستوى من الجهوزية للتدخل العسكري في سورية بمواجهة المستجدات.‏

اما على صعيد المواجهة المباشرة مع روسيا ، و بعد موجة التهويل و التحذير و ابداء القلق حيال المساعدة الروسية لسورية، كان ملفتا مسارعة اميركا و حلفائها لاعتبار سقوط الطائرة الميدانية الروسية فوق سيناء عملا ارهابيا بقصد الضغط على روسيا (قد تكون مخابرات الناتو وراء الحادث)، ثم كان ملفتا موقف اشتون كارتر وزير الدفاع الأميركي و استعماله مؤخرا عبارة «العدوان الروسي « و الجهوز لمواجهته ،رغم ان روسيا لا تتصرف خارج قواعد القانون الدولي العام بخلاف اميركا التي تمتهن خرق هذه القواعد ، كل ذلك تقوم به اميركا للضغط على روسيا لتتراجع و تغادر الميدان السوري .‏

لكن وانطلاقا من الوقائع الثابتة نستطيع القول بان حلم أميركيا بتغيير ما لمصلحتها في الميدان السوري هو حلم غير قابل للتحقق، وان «محور المقاومة ومكافحة الإرهاب» المتشكل الان وفيه روسيا هو محور اختار أهدافه وحدد الطريق اليها بوضوح ولا تراجع عنها حتى تحقيقها ولن يغير في واقع الحال غيظ او غضب أميركي ولا تهويل ولا كم افواه... وما المسالة الا مسألة أشهر وبعدها يكون على الخاسر ان يقر بالخسارة... خسارة حلم الأحادية القطبية والشرق عندها يثبت لأهله.‏