نفّذ رئيس مجلس النواب نبيه برّي تعهده بألا يترك البلد يسير في طريق «الإنتحار» السياسي، ودعا إلى عقد جلسة لمجلس النواب أسماها «تشريع الضرورة» تحت عنوان إنقاذ لبنان من الإنهيار المالي بعدما فشل على مدى أشهر في إحداث خرق إيجابي على مستوى المشهد السياسي ومعضلة النفايات رافعا شعار «ما لا يُدرك جُلّه لا يُترك كلّه»!

لقد أثارت دعوة برّي إلى عقد جلسة تشريعية بعد غياب دام لأكثر من عام تقريبا لم يقترب منها إفساحا في المجال لتهدئة خواطر وهواجس بعض الأقطاب المسيحية، عاصفة من السجال السياسي في البلد المأزوم أصلا على وقع ملفات كثيرة، وأعاد النقاش حول مفاهيم سياسية تتعلق بالميثاقية والعيش المشترك وحقوق المسيحيين كون معظم الرافضين لحضور هذه الجلسة هم من الأقطاب المسيحيين الأساسيين في البلد، الذين إستذكروا الشعور بالغبن الذي طالهم منذ إتفاق الطائف والصلاحيات التي إنتزعت منهم لمصلحة طوائف اخرى، جعلت القرار المسيحي يتحكم به من هم غير المسيحيين، فإذ بالرافضين يعلنونها «ثورة» لإستعادة الحقوق المُغتصٍبة وإعادة الحقّ لإصحابه، ومن وجهة نظرهم لا يتحقق هذا الأمر سوى بقانون إنتخاب جديد يؤمّن التمثيل العادل للمسيحيين وقانون إستعادة الجنسيّة الذي يحقق توازنا ديموغرافيا وسياسيا يُساهم في تكريس الحضور المسيحي القوي كما في السابق .

ترى مصادر سياسية متابعة للسجال الأخير الدائر حول جلسة الخميس المقبل بأنها فتحت باب المعركة التي لطالما لوّح بها التيّار الوطني الحرّ على مدى الأشهر الماضية التي تلقى فيها صدمات كثيرة لم يستطع خلالها الردّ بالمثل لإعتبارت كثيرة تتعلق بالواقع على الأرض وبنسيج التحالفات التي يقيمها تحديدا مع حزب الله وجعلته يتريث لغاية الأن، على عكس ما هو حاصل اليوم حيث ظهر- وبلا لُبس -الإفتراق الحقيقي بين الحليفين: حزب الله والتيار الوطني حول ضرورة حضور الجلسة، وهي من المرّات النادرة التي يجاهر فيها الطرفان بموقفهما المُعلن، حتى أن حزب الله لم يبذل أيّ جهود من أجل دفع العماد عون إلى تغيير قناعته بخصوص شروط حضور الجلسة، التي يراها حزب الله ضرورية جدا ومهمة للإستقرار المالي والسياسي، بينما يضعها التيّار البرتقالي في خانة خرق ميثاق العيش المشترك وإنقلاب في مفهوم الحياة السياسية الداخلية، وهو ما يشبهّه الى حد كبير إلى ما تعرّضت له الطائفة الشيعية خلال حكومة الرئيس السنيورة والتبعات التي دخل بها لبنان جرّاء ذلك، ولسان حال التيار الوطني يقول: «ما أشبه اليوم بالأمس»...

تتابع هذه المصادر بالقول إنه ورغم «نأي» حزب الله عن حليفه بموضوع حضور جلسة «تشريع الضرورة»، والتنسيق الواضح مع القوات اللبنانية بهذا الخصوص، فإن مشاورات الربع الساعة الأخيرة لا تزال مستمرة وإن كانت نسبة التفاؤل فيها مُتدنية، خاصة بعد كلام رئيس حزب القوات الدكتور جعجع الرافض بشكل قاطع لأي مساومة سياسية حول جدول أعمال الجلسة، وليس حول ضرورة إنعقادها، وهو ما يضعه بعض المراقبين السياسين في زاوية الفرصة الأخيرة التي يمكن أن تُفتح في جدار الأزمة السياسية المعقّدة، وتجنّب لبنان الإنهيار السياسي الذي يمكن ان يستتبع إنهيارا أمنيا وإقتصاديا لن تُفلح هذه الجلسة في تفاديه. أما بالنسبة للتيّار الوطني الحرّ فهو يرى نفسه مع القوات اللبنانية تحت عنوان"تحالف الضرورة «بمواجهة «تشريع الضرورة» وإن كانت نظرته إلى إمكانية إيجاد حلّ «تِقني» لجدول أعمال الجلسة العتيدة، وهذا يشكّل مرونة واضحة من قبله قد يتمّ «تلقفه» بمجرد إدراج بعض البنود الهامة على جدول أعمال الجلسة وترحيل النقاش والبتّ بها إلى جلسة ثانية وبالتالي يتمّ إنقاذ «ماء الوجه» المسيحي لإن مطالبه قد أُخذت في نظر الإعتبار.

وفي هذا السياق تعتبر مصادر قريبة من عين التينة أن التعديل في جدول أعمال الجلسة التشريعية المقبلة أمر لا يمكن اللعب به، لأنه يدخل ضمن المزايدات السياسية من قِبل البعض، وإنه دون تحقيق تقدم بما يخصّ موضوع القانون الإنتخابي او إستعادة الجنسية ـ مطبّات كثيرة تتعلق بالتوافق المسيحي تحديدا، وبالتالي من غير المنطقي طرح بنود خلافية ـ مهمّة بهذا الحجم ـ على جدول الأعمال من دون حصول توافق مسبق حولهما وهو ما يمارسه الرئيس برّي في إدارته البرلمانية منذ عقود، وتتابع المصادر بالقول إن التوافق الذي يعيشه حزب القوات والتيار الوطني حاليا، ينبع من زاوية إلتقاء مصالح «تكتيكي» «يجمع الفريقين في هذه اللحظة، ولا يمكن الرهان عليه على المدى البعيد كونهما ينتميان إلى محاور متناقضة تماما يجعل ذلك غير» منطقي». وتشير المعلومات المتوافرة من عين التينة إنه وبعد فشل الفريقين المسيحيين بتغيير قرار برّي وحقّه في الدعوة إلى جلسة تشريعية ضمن العقد التشريعي العادي، حاول الفريقان ان يستظلا بغطاء كَنسي يمكن أن يؤثّر على هذه الدعوة إنطلاقا من العلاقة «الطيّبة» التي تجمع برّي مع بكركي - وهي على ما يبدو قد تعرضت لضغوط كبيرة من أجل إطلاق نوع من «التحريم» في حضور الجلسة الأمر الذي لم يتحقق وأستعيض عنه بموقف «وسطي» يجمع بين أهمية التشريع بما يخصّ الوضع المالي وضرورة مناقشة قانون الإنتخاب وإستعادة الجنسية، ولكن من دون تحديد أن تكون الجلسة المقبلة موعدا لذلك، لكن من المفيد أن يوضع جدول زمني معيّن من أجل مناقشة هذين البندين وبالتالي يكون البطريرك الراعي لم يُقفل باب النقاش مع عين التينة وأفسح في المجال لإمكانية إيجاد مخرج للمأزق السياسي الحاصل، لكن هذا الموقف لم يكن على مستوى طموحات وتطلعات الأقطاب المسيحية التي طمعت بموقف أكثر دعما ووضوحا يساعدها في معركتها الحالية، غير ان مصادر بكركي لا تفضّل منطق المقاطعة - الذي تعتبره أكثر ضررا من المشاركة «المشروطة» - لإنه يُضعف أكثر الموقع المسيحي وعليه كانت نصائح الراعي بضرورة «المُهادنة» وعدم المواجهة مع الرئيس برّي، اذ إستطاع أن يوجد «فذلكة» قانونية يمكن أن تبرىء ساحته من تهمة ضرب الميثاقية بالحصول على دعم أقطاب مسيحية أخرى مثل النائب سليمان فرنجية وعدد من النواب المسيحيين المستقليين.

بإنتظار موقف العماد عون النهائي إنطلاقا من مشاورات اللحظات الأخيرة- التي يبدو التراجع فيها صعبا جداً - إنطلاقا من الإلتزام «الأدبي» مع موقف القوات اللبنانية المحسوم لجهة مقاطعة الجلسة إنطلاقا من الإعتراض على جدول الأعمال المطروح، يبقى موقف «عين التينة» على حاله من التشبّث بالدعوة لتشريع» الضرورة»... زمانا وجدولَ أعمال و«ميثاقية» مضمونة، وتحمل الأيام المقبلة تغيّرا في التحالفات وزيادة في «المُناكفات»، وتجعل من أزمة «النفايات» منظراً طبيعياً لا يمكن مقارنته «بالهرطقة» السياسية الحالية!