عندما أطلق الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله الدعوة إلى "التسوية السياسية الشاملة"، اتّجهَت كلّ الأنظار إلى موقف "تيار المستقبل"، الذي قيل أنّ الكرة باتت بيده وفي ملعبه، واعتُبِرت المبادرة في مكانٍ وما وكأنّها "مدّ يدٍ" من قبل "الحزب" باتجاه "التيار الأزرق"، الذي لم يتأخر في تلقّفها بإيجابيّة.
ولكن، خلف "الحزب" و"التيار"، بقيت القوى المسيحية تتفرّج، هي التي "تتشاءم" أصلاً من عبارة "تسوية"، وإن خرجت للتو "منتصرة"، كما تقول، من تجربةٍ جعلتها تعضّ على الجرح وتشارك في ما سُمّي بـ"تشريع الضرورة". لاذت هذه القوى بالصمت في المرحلة الأولى، صمتٌ عجز عن إخفاء حقيقة "مشاعرها"، غير الإيجابية أقلّه إن لم تكن سلبية...
حماسة مفقودة...
في خطابين لم تفصل بينهما سوى ثمانٍ وأربعون ساعة، أصرّ الأمين العام لـ"حزب الله" على مبدأ "التسوية الشاملة" لحلّ الأزمات التي يتخبّط فيها لبنان بالجملة، بعيدًا عن كلّ رهانٍ على حدثٍ ما، داخليًا كان أم خارجيًا، خصوصًا أنّ القاصي والداني بات يعلم أنّ لبنان الذي كانت مرتبته متأخرة جدًا على سلّم الأولويات الدولية، لم يعد موجودًا في السلّم بتاتاً، في ضوء المستجدّات الخطيرة التي شهدها العالم خلال الأيام القليلة الماضية. وإذا كان رئيس المجلس النيابي نبيه بري ورئيس "الحزب التقدّمي الاشتراكي" النائب وليد جنبلاط لم يتأخّرا في "الترحيب" بدعوة السيد نصرالله جملةً وتفصيلاً، وهما المعروفان بـ"مباركة" كلّ أشكال الحلول التسوويّة والتوافقيّة أيًا كان مصدرها، فإنّ اللافت بحسب مصادر سياسية مطّلعة أنّ رئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري لم يتأخّر بدوره بالالتحاق بالركب منهيًا فترة طويلة من "القطيعة" مع الحزب، التي لم يتسم الخطاب فيها إلا بـ"التصعيد" و"التوتير".
أما المفارقة التي تسجّلها المصادر، فهي أنّ القوى المسيحية، ولا سيما "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية" و"حزب الكتائب"، جلست "تتفرّج"، ولم تُرصَد لها أيّ مواقف، لا إيجابية ولا سلبية، للوهلة الأولى، الأمر الذي إن دلّ على شيء، فعلى غياب "الحماسة" في الصفّ المسيحي للتسوية المنشودة. وتفسّر المصادر الأمر بوجود الكثير من "الهواجس" لدى القوى المسيحية من أيّ تلاقٍ من هذا النوع، لشعورٍ كامنٍ لديها بأنّه قد يكون على حسابها في نهاية المطاف، خصوصًا بالنظر إلى التجارب "المشؤومة" السابقة، كما يصفها المسيحيون عمومًا، من اتفاق الطائف الذي صادر حقوق المسيحييين، وصولاً إلى اتفاق الدوحة الذى أتى بالرئيس ميشال سليمان، مرورًا بالتحالف الرباعي الذي عانى المسيحيون منه الأمرّين، والذي تعود "ملائكته" للظهور منذ فترة بشكلٍ أكثر من "مريب".
"السلة" مرفوضة؟
المسيحيون يخشون أن تأتي التسوية على حسابهم، وهذا حقّهم المشروع، تقول المصادر، لكنّها تلفت في الوقت نفسه إلى أنّ نظرتهم تجاه طرح السيد نصرالله ليست موحّدة ولا مشتركة، تمامًا كما أنّ أولوياتهم بحدّ ذاتها ليست واحدة، ففي حين يصرّ حزبا "الكتائب" و"القوات" على رفع شعار "الرئاسة أولاً"، تختلف "حيثيّات" كلّ منهما، بحيث يرفض الأول "التطبيع" مع آفة "الفراغ" التي تهتك بالموقع المسيحي الأول في الجمهورية اللبنانية، بغضّ النظر عن هويّة مالئ الكرسيّ الشاغر، في حين يصرّ الثاني على ضرورة ملئه بمرشحٍ قويٍ يعيد للرئاسة هيبتها ودورها، ويتناغم بذلك مع "التيار الوطني الحر" الذي يرفض أيّ "صفقةٍ" من شأنها أن تأتي بمرشحٍ رمادي لا لون ولا طعم له إلى الرئاسة، تمامًا كما حصل في تجربة الدوحة التي يفترض أن يتّعظ منها اللبنانيون.
من هنا، تتحدّث المصادر عن وجهتَي نظر مختلفتَين في صفوف القوى المسيحية، تدعو الأولى لإعطاء "التسوية" فرصتها وعدم الحكم عليها قبل تبيان عناصرها وفحواها، خصوصًا أنّها قد تكون الفرصة الأخيرة لـ"لبننة" الحلّ لمختلف الأزمات، في حين تعتبر الثانية أنّ اتحاد المسيحيين سيمنع إبرام أيّ شيءٍ قد يؤدّي لمصادرة رأيهم، على جري العادة. وانطلاقاً من هذه الرؤية، يتفق المسيحيون، وفقاً للمصادر نفسها، على رفض مبدأ "السلة المتكاملة" مع ما تجرّه من تنازلات، وخصوصًا أنّها قد تُفقِد رئاسة الجمهورية ما تبقّى لها من هيبة، عبر إخضاعها لـ"مقايضات" هي أكبر منها، سواء من خلال وضعها مقابل قانون انتخاباتٍ أو مناصب وزارية إلى آخره، وبالتالي الإيحاء وكأنّ الرئاسة هي مجرّد "قطعة غيار"، والوصف مأخوذٌ من رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، بمعنى أنّه يمكن إخضاعها للمبادلة لتحقيق بعض المكاسب الآنية، وفي الأغلب، الشخصيّة.
حكم على النوايا؟
في المقابل، تشير المصادر إلى أنّ الموقف السلبيّ الذي ظهرت ملامحه في صفوف القوى المسيحية من المبادرة المستجدّة هو أشبه بـ"الحكم على النوايا" لا أكثر ولا أقلّ، وتعتبر أنّه كان الأجدى بهذه القوى أن لا "تتسرّع" في اتخاذ مواقف هي بغنى عنها، خصوصًا بعد أن أثبتت الأشهر الطويلة الماضية عدم وجود أيّ بديل، بعدما فشل جميع الأفرقاء بفرض "حلولهم" على الآخرين، منذ ما قبل شغور موقع الرئاسة في 25 أيار 2014 حتى اليوم.
أما الخوف من إحياء "التحالف الرباعي"، فهو ليس في مكانه، وفقاً للمصادر، لأنّ هذا التحالف بات في "خبر كان"، خصوصًا أنّ خارطة التحالفات الآن هي أبعد ما تكون عنه، ولكلّ من الأحزاب المسيحية الرئيسية حليفٌ أساسيّ يفترض أنّها تثق به وبعدم تفريطه بحقوقها، سواء "حزب الله" إزاء "التيار الوطني الحر"، أو "تيار المستقبل" إزاء "القوات اللبنانية" و"حزب الكتائب"، ولا يكاد يومٌ يمرّ من دون أن يحمل عبارات "غزلٍ متبادَلٍ" بين هذه الأحزاب، والتعهّدات بالبقاء صفاً واحدًا "على الحلوة والمرّة".
بسمنة وزيت!
أكثر من ذلك، هناك من يسأل، لماذا هذه السلبيّة بوجه التسوية؟ ألم توافق القوى المسيحية سابقًا على تسويةٍ بمرتبةٍ أدنى في ما خصّ الجلسة التشريعية بل ذهبت لحدّ تصنيفها على أنها انتصار؟ ألم يخرج "الحكيم" يومها ليتحدّث عن "يوم سعيد" في تاريخ لبنان؟ وألم يخرج "الحكيم" ليهنئ نفسه بـ"حليفه" بوصفه "عرّاب التسوية"؟ ما الذي اختلف اليوم، بعيدًا عن تغيّر شخصية "المبادِر"؟
باختصار، هل هناك تسوية بسمنة وأخرى بزيت؟ وإذا كان سيناريو "التشريعية" من الممكن أن يتكرّر "رئاسيًا"، فيكون "الانتصار" عندها أكبر، لماذا يمكن للمسيحيين، ومعهم اللبنانيون أجمع، أن يفوّتوا الفرصة؟ وإذا لم يكن ذلك، فمن سيمنع المسيحيين من الاتحاد والضرب بيدٍ من حديد لمنع تهميشهم، بل فضح هؤلاء "المهمِّشين" أمام الرأي العام؟!