هناك حكمة يعرفها رجال الإطفاء جيداً وهي "إذا كان لديك حريق يحتاج الى كوب ماء لإطفائه، لكن إذا ذهبت لإحضاره ستكون قد أصبحت بحاجة الى سطل"، في دلالة بالغة على قيمة الوقت في التعامل مع الأخطار.

هذا الكلام ينطبق تماماً على صعود التنظيم الارهابي "داعش" السريع وتعاظم قوته، وفي الواقع ان هذا المبدأ ينطبق على كل الحركات السياسية والعسكرية الساعية للتغيير، سواء السلمية منها أو العنفيّة، ويعود سر نجاحها بالدرجة الأولى إلى سوء تقدير عدوّها لمدى خطورتها.

لهذا المبدأ تطبيقاته في الحرب وفي السياسة، وسنرى كيف تتدحرج كرة النار وتكبر مستفيدة من عامل الوقت.

في الحرب يلعب الوقت دوراً هاماً جداً في حسم المعارك، ففي الخطط العسكرية يتم لحظ تزامن استخدام الأسلحة المختلفة ضمن توقيت مدروس لإعطاء النتيجة المتوخاة منه، فالقصف الجوي يجب أن يعقبه مباشرة التقدم البري للسيطرة على المواقع المقصوفة ولا يجوز التأخر للإستفادة من عنصر المفاجأة ومباغتة العدو قبل اعادة تجميع قواته. أما في حالة التمهيد بالقصف المدفعي، فيلزم أن يكون الهجوم بالآليات والمشاة تحت خط سير القذائف للوصول الى التحصينات قبل إنحسار الدخان عنها.

وعندما يتم تحرير بلدة أو موقع استراتيجي، أول ما يقوم به المهاجمون هو إقامة تحصينات لصدّ أي محاولة لإسترجاع البلدة أو الموقع، والعمل التالي هو تدمير التحصينات القديمة لمنع العدو من الإستفادة منها مجدداً في حال استعادة الموقع بهجوم معاكس، كذلك يعمل المنسحبون على إشغال العدو إلى حين القيام بهجوم معاكس بأسرع وقت، قبل أن يتمكن من التثبيت والتموضع والتحصين، وكلما تأخرت عملية إستعادة الموقع كلما صارت استعادته أكثر صعوبة. هذا ما مارسه "حزب الله" في الجنوب عندما كان ينسف المواقع المستعادة من الاسرائيلي فوراً، لأنه في حال استعادها سيكون قد استعاد موقعاً مكشوفاً.

إن عدم تمكّن ​الجيش السوري​ من حسم الميدان العسكري لصالحه في بدايات الأزمة، وتسليمه بسيطرة المسلحين على بعض المناطق معتمداً سياسة دفاعية، أعطى المسلحين ما كان يلزمهم وهو الوقت الذهبي. فمع وجود مناطق آمنة نسبياً، يغلب عليها طابع الفقر، سرعان ما أقيمت المعسكرات التدريبية، وأصبح المقاتلون العشوائيون من قليلي الخبرة يخضعون لدورات عسكرية منظمة، ذات مستويات تخصصيّة وينتقلون للعمل ضمن تشكيلات وهيكليات تنظيمية عسكرية، فيها توزيع للأدوار من فصائل وسرايا وكتائب، وكذلك الإختصاصات، لتنشأ وحدات خاصة للمدفعية، وحدات للصواريخ المضادة للدروع، وحدات إتصالات، وإسعاف حربي، وصولاً إلى الإعلام الحربي، بحيث إستنسخوا تجربة "حماس" و"حزب الله"، ومع الدعم السخي المادي والتسليحي من الدول المعادية للنظام السوري، وجد الجيش السوري نفسه في مواجهة مع جيوش صغيرة متفرّقة تبادله القصف والهجوم وإستعادة البلدات والمدن عدة مرات في حرب كرٍّ وفرٍّ بدا أن لا نهاية لها.

وسرعان ما تم تعطيل التفوق الجوي للجيش السوري عبر مهاجمة وتعطيل المطارات العسكرية أو حصارها، واستلهام التجارب الفيتنامية والأفغانية والغزّاوية في تعطيل فعالية سلاح الجو عبر الإعتماد على التحصن بالأنفاق، والتموضع داخل الأحياء السكنية.

إذاً، الوقت كان عاملاً مهماً في السماح للمسلحين بتحسين أدائهم وخبراتهم العسكرية، فالساحة السورية مثالية لاكتساب مهارات القتال في بيئات متعددة، ففيها إضافة الى حرب الشوارع، حرب القرى والمدن، حرب الجبال، وحرب الصحراء. وقد ساهم المقاتلون الأجانب، خاصة الشيشانيون والأفغان والفلسطينيون بنقل خبراتهم المتراكمة في مواجهة جيوش جبارة.

كما في الكفاءة العسكرية، كذلك يلعب الوقت عاملاً مهماً في تكوين الروح القتالية للأفراد، وقد تمكنت "داعش" وأخواتها من الجماعات التكفيرية من تحويل مدنيين بسطاء يغلب عليهم طابعي الفقر والجهل، إلى مقاتلين متعصّبين مستعدّين للموت في أي لحظة يُطلبون فيها للحرب.

لقد تم منح التكفيريين فرصتهم في إقامة مجتمعات منغلقة خاصة بهم، كما حصل في الموصل والأنبار والرقّة ودير الزور وكل المناطق التي سيطروا عليها عسكريا، فطبقوا فيها النموذج الطالباني وألغوا المناهج المدرسية واستعملوا مناهج تعود لوزارة تربية احدى الدول الخليجيّة، وألغوا بعض المواد من أصلها، وفرضوا أنظمتهم الخاصة على الناس بالقوة من تحريم الدخان، وسفور النساء (ترك الحجاب والتخلّي عنه)، وحلق اللحية للرجال، وإقامة الحدود الشرعية في العقوبات كالجلد والصلب وقطع الأيدي والرؤوس في الساحات العامة.

ومن أخطر ما إرتكبوه بحق الإنسانية إعادة إحياء تجربة الإنكشارية العثمانية، حيث أنشأوا معسكرات تدريب خاصة بالأطفال الأيتام أو المختطفين من أقلّيات يعتبرونها "كافرة" بحسب المذهب الوهابي، وتحويلهم إلى الآت قتل بلا رحمة، وأظهروا مقاطع من حصص التدريب الخاصة بهم دون خجل، إذ لا خصوصية أو إحترام للطفولة في عقيدتهم البدوية النشأة، فالطفل مجرد رجل صغير بأعينهم. كما ظهر بعض هؤلاء الأطفال وهم ينفذون بأيديهم الإعدامات الترهيبية المصورة التي تنشرها "داعش" من وقت إلى آخر.

هذه العقلية المتوحشة التي لا نذكر نظيراً لها في التاريخ، لا تحفل بأي قانون دولي أو إنساني، ولا تقيم وزناً حتى لأرواح مقاتليها، فلا مكان لتبادل الأسرى لديهم، فتجدهم يعمدون الى قتلهم بعد تعذيبهم ولا يفكّرون للحظة بالإستفادة منهم في استنقاذ عناصرهم الأسرى. هؤلاء عندما يستولون على محطة كهرباء يعمدون فوراً إلى تعطيلها دون الأخذ بالإعتبار أن الناس المدنيين يستفيدون منها، حتى أنهم في العراق بمجرد أن سيطروا على سدّ الفلوجة عمدوا الى إغلاقه فوراً دون تقدير العواقب مما أدى إلى فيضان النهر على المدينة نفسها وهي الحاضنة الشعبية الأبرز لما اصطلح على تسميته بالتمرّد السني، وكذلك أغلقوا سد الموصل وهددوا بإغراق بغداد متناسين أن المياه ستجرف المناطق ذات الكثافة السنيّة قبل أن تصل بغداد والتي هي بدورها مدينة مختلطة مذهبياً.

إن مرور الوقت سيسمح لهؤلاء ربما بإبتكار أسلحة أو مؤامرات جهنمية لا تخطر في بال، كما ابتكروا أساليب غير مسبوقة في القتل والإجرام، ومع التمويل الضخم الذي يحصلون عليه لم يعد بعيدا أن يستفيدوا من الخبرات التي بدأت تأتيهم من كل حدب وصوب، فلديهم مقاتلون كانوا ضباطاً في الجيوش الروسية والأميركية والفرنسية والألمانية، ومؤخراً كُشف عن إنضمام جندي إسرائيلي من القوات الخاصة إليهم، وهو من عرب الـ48.

كما أن هذا التنظيم الإرهابي وإن كان معظم أفراده من الجهلة البسطاء، إلا أنه يضم في صفوفه بعض العقول التي تقارع أجهزة الإستخبارات العالمية، وخبراء ماليون في تبييض الأموال والتهريب والتزوير، والإتصالات والتشفير وهم غالباً ما يكونون من العناصرالأجنبية. ولا يمكن التكهن بما يخبئونه من مفاجآت قد تتضمن ابادات جماعية، وهم كثيراً ما يفاجئون أجهزة المخابرات ويسبقون تحركها بضرباتهم، خصوصًا وأن ساحة عملهم اماكن تواجد الأبرياء العزّل. وقد يستهدفون ملعب كرة قدم أو مسرح، كما حصل في باريس أو نادٍ إجتماعي كما حصل في سان برناردينو، وفي هذه الحالة سيكون على الجيش الإنتشار لا في الأماكن المهمة والحساسة، بل في كل شارع، وهذا مستحيل ويحوّل حياة أي شعب إلى جحيم.

العالم اليوم قد يكون أمام تحديات أخلاقية غير مسبوقة في الحروب، فهناك خصم لا يعترف بأي قوانين أو ضوابط، والأمر شبيه بحلبة ملاكمة أحد طرفيها يتسلّح بالعصي والخناجر، فهل سيتمسك الطرف الآخر بالقفازين المطاطيين؟

لا ندري إن كان لا يزال بالإمكان إصلاح هذا الخراب العظيم في النفوس الذي أحدثته "داعش"، والتحرك اليوم ضروري جداً قبل أن نبدأ برؤية الجيل الأول الناتج عن التربية الداعشية، وقبل أن يجد العالم نفسه بمواجهة شعب أو أمة بأكملها بدلا من مواجهة مجرد تنظيم إرهابي.