لا حدود سياسية مرسومة لاختلاط الاوراق في لبنان. كيف ستكون التحالفات في المرحلة المقبلة؟ لا يبدو المسار واضحاً. مفاجآت تتوالى. لم يكن يتوقع المراقبون صمود تيار "المردة" والمضي بترشيح رئيسه النائب ​سليمان فرنجية​. ولا توقعوا ثبات حزب "الكتائب" بوجه التحالف "القواتي"-"العوني". كانوا يظنون ان رئيس الحزب النائب ​سامي الجميل​ يعيش في أعلى درجات القلق، خوفا على الاقل من انتخابات ستلغي تمثيل الكتائبيين. كان من المنتظر ان يعلن الجميل عن موافقته على ترشيح العماد ميشال عون للرئاسة، ومسايرة التحالف الجديد لحفظ موقع حزبه السياسي والنيابي. لكن "فتى الكتائب" برهن عن ثقة وقدرة على التكتيك والمناورة. هو يدرك حجم التحالف في الساحة المسيحية. بالتأكيد وصلته أنباء اولية عن إحصاءات مراكز متخصصة تفيد ان التحالف الثنائي قادر لوحده ان يحصد فوق الأربعين نائباً على أساس القانون الانتخابي الحالي، وقادر ايضا ان يكتسح الانتخابات النقابية والطالبية مسيحياً. رغم ذلك قرر "الشيخ سامي" الصمود.

بالطبع وصلته أيضاً اخبار المستقلين الممتعضين من "اعلان معراب"، و"​قدامى القوات​" المتروكين وحدهم بعد مصالحة "التيار الوطني الحر" و"القوات"، وكل الشخصيات التي كانت انتفضت على قيادات "الوطنيين الاحرار" او "الكتلة الوطنية" او "القوات" او "التيار"، ورموز سياسية واقتصادية في المتن وكسروان ومناطق اخرى، كانوا تقربوا من أحد الفريقين، وتموضعوا ضد الفريق الآخر.

تتعدد إيجابيات المصالحة، وتترك صداها الطيب على الساحة المسيحية، لكن في المعيار السياسي هناك من سيدفع الثمن.

بعد الاعلان توالت الرسائل من سياسيين مستقلين تفيد انهم على استعداد لتكوين جبهة ثانية. جرت اتصالات سريعة وصلت الى خلاصة: "لا معارضة للمصالحة، باعتبارها شأناً ايجابياً يجب الترحيب به، من دون ان يعني ذلك الرضوخ السياسي".

جاءت خطوة الجميل اولا تفتح طريق المواجهة. وتثبت عملياً الدينامية التي تتمتع بها الساحة المسيحيّة على قاعدة الاختلاف الديمقراطي.

في داخل الحزبين المتوافقين رُصد اعتراض ضمني محدود على خطوة معراب. قد تكون الحسابات الشخصية هي الدافع، خوفاً من أدوار ستضمحل، ولا تجد لها مكانا نيايباً مثلاً. انتخابات المتن وجبيل وكسروان والبترون والكورة نماذج حية.

هناك من يعتقد ان النائب ​ابراهيم كنعان​ تقدم الصفوف وبات رقماً صعباً في "التيار" سيكون على رئيسه الوزير ​جبران باسيل​ أخذ وضعه الريادي وثقله الانتخابي في عين الاعتبار. صار كنعان رجل المصالحة المسيحيّة التاريخية. بالطبع يتقدم شعبياً بأشواط على باسيل. على الاقل سيكرّس مكانته في الصدارة انتخابياً وسياسياً. هناك من يهمس بإسمه سراً كمرشح للرئاسة يحمل لواء المصالحات المسيحيّة، في حال فشلت محاولات إيصال "الجنرال" الى الكرسي الأولى. كنعان نفسه رجل التسويات داخل "التيار الوطني الحر". بدا ذلك ايام تسوية انتخاب رئيس "التيار". قد تحمله العناوين نفسها الى صدارة المسؤولية في التيار البرتقالي في حال أراد مستقبلاً.

في المناطق الاخرى حسابات مشابهة نسبياً بوجود آخرين طامحين وقادرين. هذا يبقي تلك الحسابات مفتوحة.

في الرئاسة الموضوع مختلف. لم تقدم خطوة معراب سوى بضعة اصوات تزيد على اصوات "التيار الوطني الحر" و"حزب الله". لا زالت حظوظ فرنجية بالأرقام أوفر. قد يكون هذا الدافع ساهم بانتفاضة "الشيخ سامي" على "اعلان معراب".

حليف "التيار" الأقرب "حزب الله" إزداد حذراً مما تخفيه بواطن الاتفاق، هو لا يستطيع أيضاً إقناع حلفائه بإنتخاب عون، بعكس مما هو سائد في أوساط "التيار". لذلك فإن البناء على ضغط "حزب الله" على حلفائه ليس في مكانه. يُضاف الى ذلك الحاجة المتبادلة بين "حزب الله" وتيار "المستقبل" للالتقاء والمصالحة رغم كل المواقف التصعيدية والتباينات الاقليمية. المسألة لها حساسية تتعلق بالتوترات المذهبية، ومصلحة الطرفين بتقريب المسافات وردم الهوات. الحوار الثنائي في عين التينة دليل على ذلك.

ايضاً تيار "المستقبل" ماضٍ من دون اي تراجع الى جانب فرنجية، الى درجة الإيحاء بمعادلة: اما "سليمان بك" رئيساً واما لا انتخاب الآن. هذا هو موقف الحريري عملياً. وما يطلقه الوزير اشرف ريفي ضد فرنجية لا مكان له بتاتاً في "التيار الازرق".

"اللقاء الديمقراطي" حسم موقفه: في الشكل تأييد النائب هنري حلو وإبقاء الخيارات مفتوحة، وفي المضمون دعم فرنجية عندما "تحز المحزوزية".

"الكتائب" خيار الورقة البيضاء حتى الآن، لكن "اعلان معراب" دفع الجميل عملياً الى الانحياز سراً لزعيم "المردة"، عدا عن الصداقة التي تربط الاثنين، تعززها المصالح المشتركة ضد تقارب عون-جعجع.

في صمود "المردة" و"الكتائب" روابط ومؤشرات، وسط محاولات عدة تقوم بها شخصيات تسعى لتشكيل جبهة سياسية موحدة، لن تكون ضد اي فريق، لكنها ستزيد النقاش السياسي جدلاً وديمقراطية.

التّموضعات لا تعني حسم التحالفات نهائياً، ولا هي بالأساس تدفع بانتخابات الرئاسة، ربما بالعكس ستؤخر بت الاستحقاق الرئاسي. حتى الساعة الظروف توحي بأن فرنجية لا زال هو الأقرب الى بعبدا، لأن طريقه من بنشعي الى بكركي الى الصيفي وبيت الوسط وكليمنصو وعين التينة سالكة، فيما طريق الرابية الى معراب ثم الى الضاحية ليست كافية للتزود بقوة الدفع نحو القصر الجمهوري.

فهل يبقى لبنان ينتظر الاتفاقات الطويلة؟ الى متى؟

لا احد يملك لا السيناريو ولا الجواب.