على الرغم من طابعه الديني، وما حمله من تشديد على القيم الدينية والمسيحية، من المهم القاء نظرة من وجهة نظر سياسية، على اللقاء التاريخي الذي جمع رأس الكنيسة الكاثوليكية ​البابا فرنسيس​ ببطريرك موسكو وسائر ​روسيا​ كيريل.

اللقاء بين الرجلين والذي انتظر الف عام لحصوله وفق ما يمثلانه، حمل عنواناً عريضاً هو التقارب الكاثوليكي-الارثوذكسي، او على الاقل وضع حجر الاساس لحصول مثل هذا التقارب. وكتجسيد لهذه الرغبة، وفي نهاية اللقاء، وقع الرجلان وثيقة من ثلاثين بنداً ونشراها في وسائل الاعلام.

بداية، لا بد من الاشارة الى انه بالنسبة الى البابا فرنسيس، فهو يسير على خطى القديس ​يوحنا بولس الثاني​ الذي لفّ العالم ومدّ جسور الحوار مع مختلف الطوائف والمذاهب، الا انّ البابا القديس لم يتمكن من تحقيق الخطوة التي حققها فرنسيس، اما من ناحية ​البطريرك كيريل​، فمكانته معروفة لدى الأرثوذكس، وهو ان لم يكن رئيسها الا ان قيمته المعنوية كبيرة جداً خصوصاً وان اكثر من 150 مليون ارثوذكسي يتبعونه كنسياً.

واذا تركنا للمتعمّقين في الديانة والامور الروحية التعليق على ما اختزنته الوثيقة الصادرة من معطيات حول التقارب المسيحي-المسيحي، لا بد من التوقف عند نقاط بارزة ومهمة وردت في الوثيقة والنظر اليها من الناحية السياسية العامة.

في البدء لا بد من القول، ان اللقاء لم يكن ليحصل لولا عدم ممانعة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، لان العلاقة بين الكنيسة الارثوذكسية والسلطة في روسيا باتت عميقة الى حدّ التناغم، ولا احد ينسى الموقف الذي اصدرته الكنيسة والداعم للتدخل الروسي في سوريا ولاقى اعتراضات لعدد من القيادات السياسية والروحية في المنطقة. ومن المؤكد ان البطريرك الأرثوذكسي لا يرغب في إعادة العلاقات مع السلطة في روسيا الى نقطة الصفر، والتسبب في صراع مع بوتين (الذي يمسك السلطة والامور في روسيا بيد من حديد) من اجل لقاء مع البابا ولو حمل الطابع التاريخي.

اما مضمون الوثيقة التي تمّ توقيعها، فحمل الكثير من الأمور يلفت فيها على وجه الخصوص، أمران أساسيان: دق ناقوس الخطر بالنسبة الى المسيحيين ووجودهم في الشرق، حيث تم التركيز على مسألة الاضطهاد الذي يعاني منه المسيحيون وادى الى تهجيرهم من قرى وبلدات ومدن ومناطق ودول. وفي هذا الاطار، يمكن القول ان الكنيسة الكاثوليكية "غضّت الطرف" عن التدخل الروسي في سوريا، وفتحت باباً واسعاً للولايات المتحدة واوروبا من اجل العمل مع الروس على الحدّ من استهداف المسيحيين، أي بمعنى آخر مهدت الطريق لإيجاد أرضية مشتركة يمكن منها الانطلاق في سبيل ازالة الخطر الذي يهدّد المسيحيين (وغيرهم من الطوائف كما ورد في الوثيقة)، واعتبار الإرهاب عنصراً جامعاً لهم في سبيل القضاء عليه، بدل ان يكون عنصراً مشتتاً.

الامر الثاني الذي شدّدت عليه الوثيقة هو محافظة اوروبا على هويتها المسيحية، وهذا يقضي بتنفيذ أمر آخر ذكرته الوثيقة وهو ضمان عودة اللاجئين الى ديارهم. ويأتي هذا الموقف بعد موجة الهجرة غير المسبوقة التي اكتسحت اوروبا والعالم، وهددت بتحويل الوجه الديني للقارة العجوز عبر تواجد كثيف للاجئين من سوريا والعراق وليبيا وافريقيا. هذا الامر كان ايضاً سبباً لإطلاق جرس الانذار، ووضع حد لهجرة اللاجئين، وهو ما يمكن فعله عبر التوصل الى اتفاق سلمي يعيد الوضع الأمني الى الاستقرار ويسمح بالعودة، اي بمعنى آخر عمل الجميع من اجل الجلوس حول طاولة المفاوضات رغم كل المشاكل، وتخطي كل العقبات من اجل الوصول الى هذه الغاية.

اما المسألة التي تصب في خانة روسيا حتماً، فكانت تلك التي تتعلق ب​أوكرانيا​ لجهة عدم التحوّل من مذهب الى آخر، او الانفصال عن الكنيسة الروسيّة، وهو أمر بغاية الأهميّة بالنسبة الى موسكو، ويعطيها حافزاً إضافياً لابقاء الأمور تحت سيطرتها في هذا البلد، او على الأقل أن تضمن عدم معاناتها من تمرد او "انتفاضة" لا ترغب روسيا في مواجهتها إن في الوقت الحالي او لاحقاً.

لا شك ان الوثيقة اتت بعد لقاء تاريخي، وقد تشكل اساساً صالحاً لجهود اعادة الوحدة بين المسيحيين وهو امر منتظر منذ سنوات طويلة، ولكن هذا لا يعني ان هناك حلول سياسية قد تنبثق عنها عاجلاً وليس آجلاً.