كان المشهد سريالياً للغاية في مجلس النواب اللبناني يوم الاثنين في الثامن من شباط الجاري، خلال الجلسة المفترضة لانتخاب رئيس الجمهورية اللبنانية، بناء على الدعوة الخامسة والثلاثين التي وجهها رئيس مجلس النواب لالتئام البرلمان، غاب المرشحون وكتلهم، ولم يتأمّن نصاب الجلسة المفترض تعداده 86 نائباً.. حضر المحامون والمتهمون، وغاب القضاة عن المحكمة، فكان من الطبيعي تأجيل الجلسة.

في الواقع، عندما يُعرف السبب يبطل العجب؛ فالانتخابات الرئاسية في لبنان شأن مختلف تاريخياً عن أشكال الديمقراطية المتعارَف عليها في العالم، إذ لم يُنتخب رئيس في لبنان منذ الاستقلال تحت قبة البرلمان إلا مرة واحدة عام 1970؛ عندما تنافس الرئيسان الراحلان سليمان فرنجية والياس سركيس، وفاز الأول بفارق صوت واحد.

من قبل ومن بعد، كان الرئيس يُنتخب في الخارج، ويجري التصويت الشكلي عليه داخل المجلس، وكان اللبنانيون يعرفون اسم رئيسهم قبل جلسة الانتخاب، ويهنئونه سلفا قبل أن يعلن رئيس المجلس فوزه تحت قبة البرلمان. هكذا انتُخب بشارة الخوري وكميل شمعون وفؤاد شهاب وشارل حلو والياس سركيس وبشير وأمين الجميل، ثم رينه معوض والياس الهراوي وإميل لحود، ومؤخراً ميشال سليمان.

يعرف اللبنانيون جيداً، كبارهم وصغارهم، هذه المسلَّمة، ومع ذلك ينادي السياسيون بالتوافق والديمقراطية في آن معاً، لدرجة اخترعوا نظاماً سياسياً جديداً اسمه "الديمقراطية التوافقية"، مع علمهم المسبق أن التوافق والديمقراطية خطان متوازيان لا يلتقيان.

يندب اللبنانيون حظهم الذي وضعهم في لجة نظام سياسي ليس له مثيل في العالم؛ نظام يستولد الأزمات صبح مساء، ومع ذلك يُهرعون إلى صناديق الاقتراع كلما حانت الفرصة لذلك، ويجددون لهذا النظام بأمّه وأبيه وأعمامه وأجداده..

هذه الوقائع تفتح المجال أمام ثابتة لا بد من الاعتراف بها، وهي أن نظامنا السياسي في طريق مسدود، وعبثاً البحث عن بلد في ظل هذا النظام. صحيح أن الدستور اللبناني الذي نجم عن هذا النظام هو كتاب مفتوح على الحل، لكن الدستور في واد، والساسة في وادٍ آخر، وليس سراً أن لبنان بعد ربع قرن على اتفاق الطائف ما يزال معلقاً في منتصف البئر، بعد أن استمرأت الطبقة السياسية هذا الواقع.

لم يعد ينفع الصراخ ولا العويل، ولعلنا نظلم "السريالية" إذا ما رمينا بها واقعنا المزري.. هي في الاساس نظرية فكرية "فوق واقعية" تغذي الخيال، لكننا تخطّينا هذه النظرية إلى ما "فوق فوق الواقعية"، وأغلب الظن أننا في ظل هذا النظام ذاهبون إلى "ما بعد بعد السوريالية".. لعله نظام "السوريالية التوافقية".